أثناء جلوسي معه تحت ظل شجرة هروبا من قيض تهامة.. أمسك العم عمر عبدالله يدي بأصابعه المرتعشة.. ثم راح يحكي والعرق يتصبب من جبينه قائلا: ثمة حزب ظهر في اليمن قبل ظهور عدد من دول المنطقة، استهوتني في يفاعة سني تنظيراته القومية على قلتها وخطابات زعيمه الخالد المسجلة، وكذا صوره المهيبة التي كانت توزع في مدينة الحديدة على عوام الناس بمناسبة وبغير مناسبة... ويومها ضمت جدران غرفتي تشكيلة واسعة من هذه الصور.. كنت أرفع لها التحية كلما دخلت أو خرجت.. ومن الطبيعي بعد ذلك أن أنتمي إلى هذا الحزب يدفعني حماس عظيم في خدمة القضايا القومية، لكنني صدمت صدمة كبيرة وأنا أحضر تلك اللقاءات السرية لأنها لم تكن تنتمي لتلك التنظيرات الرنانة بتاتا.. وكان كل همها مواجهة فصيل إسلامي معين وتشويهه عبر الإشاعات العريضة التي تنفر الناس منه، وقلب الحقائق رأسا على عقب، مكر الضُّرّة بالضُّرّة، وكم كانت دهشتي كبيرة حين أدركت أن هذا السلوك توجه عام لهذا الحزب الذي جعل من نفسه مطبا سياسيا يرتمي في طريق (المطاوعة) عرقلة وإيذاء وتشويه سمعة ليس إلا، وقد دفعته الضدية السياسية التي نشأ عليها تجاه هؤلاء إلى تبني مواقف غير موضوعية في قضايا وطنية واضحة، المهم أنه يؤدي وظيفته التي قام من أجلها، وليذهب كل شيء بعد ذلك إلى الجحيم، وعلى الرغم من أن إسرائيل وأدواتها في المنطقة هم العدو القومي الأول للعرب والمسلمين؛ إلا أنهم لم يحظوا من اهتمام هذا الحزب بعشر معشار ما حظي به المطاوعة من عداء سافر مفتوح، ليس فقط مطاوعة اليمن وإنما في كل قطر عربي.. فما الذي أضرهم على سبيل المثال من فوز جبهة العمل الإسلامي في الأردن مطلع التسعينات ليكشروا عن أنيابهم بتلك الصورة المريعة؟! يضيف العم عمر: انسحبت بهدوء من هذا الحزب واشتغلت بالتصوف سنوات، كنت أحضر فيها مجالس الذكر وأزور الأولياء وأحيي مع مجاميع هذا التوجه كافة المناسبات الدينية التي يحييها الصوفية على امتداد تهامة، ومن طرف خفي كنت أراقب سلوك هذا الحزب فتترسخ قناعتي بحقيقته، ثم ما لبثت أن انتقلت إلى مدينة المخا حيث عملت بتجارة المواشي وانشغلت عن السياسة كليّة، ولم يعد يستهويني منها شيء، حتى أعادتني إليها الأحداث الأخيرة بشكل قسري، ولأن جذور انتمائي القومي لا تزال حية في تلافيف الوجدان فقد قادني ذلك إلى إعادة تقويم حزبي القديم، فمن غير المعقول أن لا يحدث فيه حراك عقود من الزمن تغييرا في الرؤية والمسار، وخاصة أن المنطقة العربية شهدت انهيارات قومية مذهلة، تستدعي من النخب السياسية الوعي والحذر، ومغادرة مربعات الضدية السياسية والمغايرة الحزبية إلى نطاق من التكامل المتين والعمل المتماسك، غير أني أصبت بالخيبة والمرارة معا حين وجدت حزبي ينسف كل أمنياتي بضديته القديمة النزقه.. تمنيته يقف ضد جرف الهوية العربية وضد انتهاك السيادة الوطنية، وضد إشعال الصراعات البينية، وضد الاستيلاء على مقدارات اليمن وخيراتها، وضد هذا الخراب القومي المتصاعد ليس في اليمن وحسب، ولكن في المنطقة العربية كلها.. لكنني للأسف الذابح وجدته يرتدي معطفة القديم، ممسكا بندقيته القديمة.. وفي ذات المترس القديييييييم.