دمهم في الذاكرة لم يتخثر بعد. صناع الكرامة، صناع التغيير.. ذهبوا لنبقى، وبقينا نلملم أرواحهم لنبني منها أملا لوطن تاهت تضاريسه في عباءة رجل لا يشبع من شيء، حتى من نسيان أنه لم يعد رئيسا. رجال الكرامة كانوا في موعد غير مرتقب لصناعة التأريخ، كان القتلة يجمعون رصاصهم، وكانوا هم يجمعون دعاءهم.. القتلة كانوا يختلون بالرشاشات، وهم يختلون بخالق قدس الحياة.. القتلة يرجون الموت، وهم يبحثون عن حياة عادلة.. القتلة يصوبون آلة القتل صوب هامات صوبت أعينها باتجاه الله.. عمروا رشاشاتهم، وأولئك عمروا حناجرهم بالدعاء وابتهالات الحرية. بين القاتل والقتيل مساحة كانت كافية لصناعة اليتم في أسر آمنت بأن الحق للناس وليس لأسرة ملكت بلدا، لكنها كانت مساحة امتدت على حوافها آمال شعب بالحرية والتغيير. كنت هناك، وكان قدري أن أطل بديلا لمراسلي قناة "الجزيرة" في تلك اللحظات بعد أن منعوا من العمل وأغلق مكتبهم. في المستشفى الميداني حيث خرجت أولى ثلاث جثث كان علي أن أصف مايحدث، وحاولت النظر في الجثث كي أتأكد خشية من التورط على الهواء بأي معلومة خاطئة. كانت رائحة الدم تمعن في تعذيب عيني ومشاعري، وكان دمهم كما يتطاير في أرضية المسجد( المستشفى) يغلي في قلوب من يشاهد هذا الرعب القادم من عقلية المستبد. كان العدد يتزايد ووصل حتى قرابة 30 شخصا وأنا لازلت أتحدث.. لم أكن أتحدث، كنت أصف صورا لاتروى، وكان الحبيب الغريبي يقول لي "نحن لانرى ماتراه الآن"، ولم أكن قادرا على نقل ما أراه، لأن نقل صورة الدم أشبه بتعذيب صاحب الدم. لست أدري ما الذي خدرني، شعرت بأني لم أعد أنا، وأني صغير صغير أمام عظمة الدم، وقداسة الروح، كنت أسحب ساقي كمن يجر جنازة خلفه، وكان رضوان مسعود يسألني عقب خروجي، "هل شاهدت جمال الشرعبي"، فأجبت نعم، ثم شعرت بخجل من جمال، جمال الذي كنا معا في خيمة "صحفيون من أجل التغيير" قبل يوم واحد.. كان حاضرا بكل بهائه ووسامته. ذهبت ثانية إلى حيث مكان المجزرة، وهناك كانت بركة الدم تتوسط جولة الرقاص-الدائري، كانت البركة ترسم خارطة المطلب الشعبي الذي سطره دم أولئك في ذاك اليوم القاسي على ذاكرة الشعب. ربما يخجلنا دمهم الآن، لكن الرجل الذي خرج للناس بكل صلف ليقول إن القتلى سقطوا بصراع مع أهالي الحي لم يخجل بعد. ليته صمت فقط. اعتاد الاستهانة بنا، فهان كل ذلك الدم في عينيه، وخرج بابتسامته السمجة تلك في ليلة كان الناس بحاجة لرجولة رئيس يعلن شيئا يخفف من دموع الناس. كانوا حوله يصورون له الدم على أنه "فيمتو"، لأن الدم في عروقهم صار نفطا، بفعل امتصاصهم لخيرات بلد برعاية رئيس وزع البلد لأعوانه مثل كعكة احتفال يخصه. في المقبرة كان المشهد أكثر وضوحا، حين ارتصت القبور كصورة مكتملة المعاني، وجلية الألم، كان الدمع يتساقط في زوايا المقبرة، وكان صالح يبحث عن الوقت لينجو. اليوم لازال الرجل يسرق بسمة الأيتام والثكالى بصورته بعد أن نجا بما فعل. لم يتعلم الرجل الخجل من الدم، ولم يتعلم العيش بلا كاميرا، فاخترع لنفسه قناة سرقت أدواتها من أملاك الدولة لتخلد صورته التي لم تعد تعني أحدا. ليت الرجل يشعر بألم قتلاه، ليته يعلم أن القدر نجاه ليصمت، ليته يشعر بصرخات "عتاب المنيعي" فيأوي إلى محراب يستغفر لذنوبه ويرجو عفو ربه، ليته يتعلم كيف يبكي فيشعر بقهر الرجال، لماذا تأثر فقط حين تأكد أنه يسلم السلطة، وهي المرة الأولى التي أمسك الرجل فيها دموعه. لم يكبر علي عبدالله صالح.. لم يكبر ويترك البلد لمن غيره، لم يكبر كعبدالرحمن سوار الذهب مثلا، ولم يكبر كبشر ليؤمن أن العصر لم يعد عصره، ولم يكبر ليتذكر دماء جمعة الكرامة، ليترك للناس كرامتهم، وهم كفيلون بحمايتها.