سادسا: في الثقافة ووظائفها: ------------------------------------- إن حكم أي أقلية هو بحد ذاته حرب على ثقافة المجتمع وتقاليده ورموزه،ضرب لمرجعيته،وطريقة تفكيره،خياراته ووسائله،أهدافه وغاياته ككل. فالثقافة بوصفها السمات التي تميز أمة عن غيرها من الأمم؛أضحت تعني الهوية القومية"=الوطنية"،وارتباطها بها. ولذا فإن عملية دمج الفرد اليمني في ثقافة ما ليس أمرا معطى منذ البدء،بل هو ثمرة لعملية صراع بين الوعي الذي يحاول أن ينفذ إلى الواقع مباشرة،وخارج أطر الثقافة وما تفرضه عليه من شروط اجتماعية،وبين الجماعة"=الحوثية" التي تحاول أن تفرض عليه مجموعة القواعد التي تعتبرها شرطا لوجودها،كما يقول برهان غليون. حيث للثقافة ثلاث وظائف اساسية:معرفية ومعيارية ورمزية،تتطابق بشكل عام مع المنظومة الأساسية الكبرى التي ذكرها القدماء وركزت عليها الفلسفة الكلاسيكية،أي الحق والخير والجمال،ولكنها لا تتطابق معها في الحقيقة،ففي المعرفة العلمية نشاطات معيارية ورمزية اساسية والعكس صحيح ايضا. لذا تبتغي الحوثية تحديد الثقافة العليا للقيم الأساسية والروحية والمادية القائمة في الثقافة الشعبية،وبحيث تكون حاملة لقيم اجنبية"=إيرانية"،منافية لوحدة الجماعة"=اليمنية الوطنية"،ومستمدة مباشرة من نظم وثقافات اخرى لا علاقة لها بالثقافة المحلية"=الوطنية".أي تكون الثقافة العليا تعبيرا عن الهيمنة الخارجية،وتكريسا لها،أكثر مما تكون ترجمة للإستجابات والحلول العقلية المنظمة التي تقدمها الثقافة الوطنية،للإجابة على المشكلات التي يطرحها عليها النظام الإجتماعي،كما يذهب لذلك برهان غليون.
إذ أن الثقافة هنا تعبيرا عن تفاعل دائم وتنازع مستمر بين الأنماط الثقافية،أو الثقافات الفرعية على احتلال موقع السيادة في المجتمع،والتظاهر من أجل ذلك بالتطابق مع الثقافة الشعبية عامة،أو مع الثقافة الرسمية العليا،وبوصفها إطار تحقيق التماهي بين الأفراد والفئات الإجتماعية مع الجماعة أو المجموع الكلي للمجتمع،-حسب قراءة غليون-. بمعنى أن الحوثية تسعى إلى أن تجعل من قيم ثقافتها الخاصة والفئوية،التعبير الأمثل عن القيم الشعبية،أي تجهد لجعل ثقافتها الفئوية تلك والقيم النابعة منها،ثقافة قائدة،أي معترف لها بالأولوية والفاعلية،عندها يكمن نجاحها في تحويل عملية تماهي الفرد مع المجتمع،إلى عملية تماهي المجتمع ككل معها ومن ثم مع دولة"=الملكية الخاصة" التي تستتبعها. وهكذا تضمن الفئة القائدة"=الحوثية"،لنفسها الهيمنة الثقافية التي تقدم لها الشرعية العقائدية اللازمة لترسيخ سلطتها السياسية،وبإعادة انتاجها في الوعي،عن طريق إلتزام بقية الفئات والطبقات الإجتماعية ببرنامجها؛حيث انتشار القيم الفئوية/الطائفية،يؤدي إلى تدعيم سلطتها الثيوقراطية.
وبهذا تصبح الأنماط الفرعية الثقافية لها هي المهيمنة أو القائدة نفيا عمليا ورسميا للثقافة العامة،وللثقافات الفرعية الأخرى،ويحصل بدلا عنه الهيمنة الثقافية الطبيعية سيطرة آلية للثقافة الفئوية الحوثية،تفرض نفسها دائما بالعنف،أي بالتحطيم المنظم لثقافة الجماعات المجتمعية،وتحويل الثقافة الوطنية إلى"كاريكاتور" فارغ من المعنى لثقافة الفئة السائدة،وهذا هو ترجمة عملية لطبيعة العلاقات القائمة بين نخبة اجتماعية حوثية والفئات الحاكمة والمجتمع؛حيث تظهر ثقافة الحوثية المدمرة لكل ثقافة قائدة كاستعمار للعقل،وكغزو اجنبي للثقافة! وإذا ما اخفقت الثقافة الوطنية في التخلص من هذه الثقافة الفئوية الحوثية الإيرانية؛فإن النتيجة الحتمية لذلك تحلل الثقافة القومية لليمنيين وتفكيك جميع النظم المعيارية والإعتقادية القائمة على اساس وحدة المعاني والمضامين والقواعد والدلالات في المجتمع،ويقود الإنحلال الثقافي في صورة الإنكفاء الجماعي عن الثقافة الموحدة إلى الثقافات الما قبل قومية ووطنية،حسب قراءة غليون القيمة.
كما أن تحويل الشخصية إلى ماهية ثابتة وما يرتبط بها من استعادة للتاريخ وتوحيد له،أو من مطابقة الهوية مع الأرض،أو المهنة أو العرق،ليست في الواقع سوى دليلا على انهيار الوظائف العليا للثقافة،وتصبح الثقافة القومية مقدمة لتوحيد الجماعة"=اليمنيين بمختلف فئاتهم" المستعمرة-بفتح الراء وما قبلها- وتكوين هوية جديدة ومتجددة لطرد أدوات الإحتلال وتنظيماته وقواه وميليشياته،وتدمير النظام الإستعماري؛حيث تصبح الثقافة في ذاتها منبعا اضافيا للنزاع الإجتماعي والحرب،وإفقاد المجتمع إحدى أهم الوظائف التي تساعده على الدفاع عن نفسه،ضد خطر الإنفجار الداخلي،والتراجع التقني والتلاشي،وهنا لا يمكن للسياسة الا أن تتجلى مباشرة كمجابهة مسلحة وحربا أهلية،كما يقول غليون،وينضح الواقع اليمني به.
كل هذا يعني أن نخبة الحوثية الفئوية تسعى لتدمير كل اسس المجتمع المدني والسياسي،حتى تستطيع أن تحول سلطتها السياسية المجسدة في دولة الملكية الخاصة والقائمة بشكل رئيسي على الإنقلاب والدعم الإيراني اللا محدود،إلى سلطة مطلقة ونهائية وشاملة،لا يمكن تهديدها أو الإعتراض عليها والغائها من ثم. كما يعني تحطيم الثقافة إلغاء حرية التفكير والتعبير عن الذات،واحتكار وسائل النشر والحظر على النشاط الذهني بكل اشكاله،ومصادرة الأفكار والمشاعر،والهدف تحويل المجتمع المدني والسياسي والأهلي إلى هشيم يمكن ضبطه والتلاعب به،وتوجيهه حيثما تشاء الحوثية. وهكذا تتحقق الثقافة والحضارة الإيرانية في اليمن وبلاد العرب،خارج وطنها الأصلي،وتصبح ثقافتها ثقافة الشعوب المستعمرة،بعد أن كانت وسيلة لغزوها واخضاعها،وهذا يعني ايضا أن الشعوب المستعمرة لا تستطيع أن تفكر بذاتها ولا في وضعها الا من خلال المفاهيم التي تفرضها الثقافة الإيرانية السائدة،والرؤية العامة الروحية والتاريخية التي تعممها،فيكون وعيها لذاتها هو أولا وعي بغيرها،ولا يقوم الا به.
علاوة على أن فكرة الأمبراطورية الإستعمارية الإيرانية تصبح غير خاضعة لأي معايير انسانية أو دولية،وتصبح العنصرية عقيدة دول وحركات اجتماعية وتنظيمات ميلاشوية،وتظهر في التاريخ هكذا؛حيث تصبح العلاقة بين إيران والحوثية علاقة تتجاوز المصلحة المادية لتصل إلى مستوى الشعائر،كما هو قائم اليوم بين امريكا واسرائيل؛حيث كل طرف يجد في الآخر مرءآة لنفسه،وتاريخه،وتأكيدا لتفوقه. وما تحويل الرمز الخارجي إلى عملية اقتداء مشوه،أو مرجعية،الا تجسيدا للخضوع له والإعتراف له بالولاية والسيادة،أي تعميد منطق الغلبة وقبولها به وتأبيده وتأييده داخليا وخارجيا.
ختاما: -------- يتضح من كل ما سبق وعلى مدى سلسلة حلقات المقالة الثلاث أن الحوثية نسخة إيرانية صرفة،بمعنى أنها تنظيم وميليشيا مسلحة وجماعة وكيان مصطنع ايراني بحت،أي لا شيئ فيه ومنه يمنيا،لا الحوثية استنساخ لإيران وبه ومعه؛فالإستنساخ فعل،والفعل يقوم على الإرادة والهوية المميزة والماهية والثبات،أي له صلة بمشروعية وشرعة من فعل في ذاتها،ولها حق استنساخ تجربة ما أو نقلها والإهتداء بها،وهذا هو ما ليست عليه الحوثية بل مسخ كامل،إذ ترى مرجعيتها وهويتها ورمزها ومعيارها هو نظام ولاية الفقيه وليس أي شيئ اخر يمنيا أو عروبيا مهما كان.