و كانت مصر و الشام، و عين جالوت جدار الصدّ و الظفر ! انطلق التتار كالإعصار من موطنهم منغوليا ، و راحوا يكتسحون ما أمامهم من ممالك ، و دول، و إمارات عربية و إسلامية متناثرة، حتى أسقطوا بغداد عاصمة الخلافة العباسية؛ بينما وقفت تلك الدويلات متفرجة للخطر الداهم الذي يزحف باتجاه بغداد الرمز؛ حيث لم يكن لمسمى الخلافة حينها غير الإسم فيما الواقع أن كل صقع ، أو ناحية ، قد نشأت فيها دولة ، أو قامت فيها إمارة لا ترابط بينها، و لا صلة بعاصمة الخلافة، غير الرمز الصوري.
لم يتوقف التتار أو المغول عند إسقاط بغداد ، بل مضوا بعدها يكتسحون ممالك و إمارات الشام؛ مُسَخِّرين كل منطقة أو مملكة سقطت ضد شقيقتها، و مستخدمين كل إمارة استسلمت للقتال مع المغول ضد الإمارة التي تليها.
المخجل، و الأمر المخزي أن معظم تلك الدويلات تسابقت للاستسلام و دعم التتار ، و كل أمير مستسلم على امتداد المساحة من حدود الصين حتى فلسطين كان يظن أنه سينال باستسلامه، و خضوعه، و انبطاحه حظوة و مكانة عند التتار، لكن أوهامهم ، و خياناتهم قادتهم إلى مصارعهم ،و كان كل مستسلم في اليوم الأول يصبح ضحية مُهَاناً في اليوم التالي بعد أن يكون التتار قد قضى منهم وطره !
لجأ كثير من أهل الشام، و أحرارها إلى مصر لما رأوا أمراءهم و ملوكهم يتسابق معظمهم لبيع الممالك والمواقف للتتار.
و كانت مصر آخر جدار مَرْجُوّ لِصدّ التتار، و لو أنها انكسرت يومها لانساح التتار في كل شمال أفريقيا ؛ لأن حال دولها و إماراتها كان نسخة في ضعفه و تفككه من ممالك، و إمارات المشرق :
أسماء مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
فهل صمد جدار الصد المرجو في مواجهة التتار أم سلك مسلك سابقيه انهيارا، و استسلاما، و خيانة ؟! تحت ذريعة : خلونا نعيش ! دعونا نأكل عيش.. ما جدوى المقاومة ؟ من بمقدوره أن يهزم التتار؟
و كان لمصر، و مَن تَجَمّع فيها من أحرار الشام الذين لجؤوا إليها موعدا مع التتار.
تضافر الجهد الشعبي الذي تميز بالحماس و الشعور بالمسؤولية،و الذي أذكى أواره ، و تصدر مهامه العالم المجاهد العز بن عبد السلام، مع الحنكة السياسية و العسكرية التي قادها السلطان المملوكي المظفر سيف الدين قطز ، و تعبأت الروح المعنوية، و لم ينتظر المظفر قطز وصول جحافل التتار إلى أرض الكنانة مصر بل بادر بجيشه بالتوجه نحو الأرض المباركة فلسطين.
و هناك كانت معركة من أجَلّ معارك التاريخ الإسلامي، و من أعظمها ؛ معركة عين جالوت في الخامس و العشرين من شهر رمضان من العام 658 من الهجرة، التي ألحقت بالتتار الهزيمة الماحقة، و كان جدار الصد عند مستوى ما كانت ترجوه منه الأمة و تأمله.
و لو لم يقيض الله للأمة ذلك الجدار الذي وضع حدا للتتار لاجتاحوا ما تبقى من دول العالم العربي و الإسلامي في قارة أفريقيا.
و اليوم ..!! يمثل رجال الطوفان، و تمثل غزة و الضفة جدار الصد لمغول العصر، و تتار الحاضر.
إن المقاومة الفلسطينية هي من تمثل بكل وضوح جدار الصد تجاه التوحش و الهمجية الصهيونية، و لو استمر خذلان هذا الجدار ، و ترك وحيدا، ثم تصدع، لأصبح كل ما وراءه من أقطار لقمة سائغة لشذاذ الآفاق من الصهيونيين المجرمين ؛ و لانساحوا يعربدون مع حلفائهم ؛ في كل عواصم الصمت ، و الخيبة و التخاذل.