656 هجرية سقوط بغداد بيد المغول، 658 هجرية سقوط المغول بيد المسلمين ! فكيف كان ذلك؟ كان التتار أو المغول شعبا منسيا و متخلفا همجيا، و كانت مملكة خوارزم الإسلامية التي على حدودهم قد غرقت في الترف وسادها الترهل، و هي الآفة التي كانت قد أصابت كل الدويلات الإسلامية حينذاك. و آفة الترف و الترهل جرثومة خبيثة تسقط الدول و الحضارات. حينها خرج المغول الهمج يسقطون الدويلات و الإمارات الإسلامية الواحدة تلو الأخرى من أقصى الشرق حتى أسقطوا بغداد عاصمة الخلافة العباسية فالشام، وصولا إلى حدود مصر . كانت بغداد يومذاك - رغم الترهل الذي أصاب الخلافة العباسية - مركز الدنيا حضارة و مدنية وجمالا و فنا.. أو كما وصفها الإمام الشافعي قبل ذلك حين قال : من لم يعرف بغداد لم يعرف الدنيا! و قد ازدادت حضارة و تطورا بعد هذا الوصف .. حتى أدركها الترهل الذي يعجز في الحفاظ على نتاج الفكر و العقول و منتجات الحضارة و مكتسباتها. و فجأة، و بضربة همجية سريعة صار عمران الحضارة خرابا، و غدت مظاهر مدنيتها بلاقع، و صارت كتبها جسرا يعبر عليها الهمج من الضفة إلى الضفة من نهر دجلة، و الأدق تعبيرا : عبروا من مناهل العلم و المعرفة إلى مجاهل التيه و التخلف. تساقطت الدول الإسلامية في أقل من عامين ؛ من بلاد المغول إلى حدود مصر، و وقف رجال جنكيز خان المغولي على مشارف مصر حيث أرسل القائد المغولي هولاكو البيان الحربي رقم واحد إلى سيف الدين قطز سلطان مصر : ( ... أسلموا إلينا أمركم، قبل أن ينكفئ الغطاء، فتندموا ... فنحن ما نرحم من بكى، و لا نرفق لمن شكى، قد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد و طهرنا الأرض من الفساد، و قتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب و علينا الطلب فأي أرض تأويكم و أي طريق تنجيكم...) و هكذا مضى يرعد و يبرق، و يتوعد و يهدد . كانت مصر يومها يحكمها المماليك الذين كانوا يجمعون بين خصلتين متناقضتين : سوء الحكم، و في المقابل و الحق يقال : رجال شجاعة و حرب، و أبطال معارك و نزال. كانت العلاقات بين الدول العربية الإسلامية علاقات ممزقة، بل تصل إلى حد خيانةبعضها البعض، و هو ما سهل الأمر للمغول، و من قبلهم الصليبيين على اجتياح الدول و الممالك الإسلامية، ففي الشام حالف الصالح اسماعيل ملك دمشق الصليبين ضد ابن عمه ملك مصر، و سلم للفرنج أراض ٍ و قلاع، الأمر الذي أغضب قاضي دمشق و خطيب الجامع الأموي العز بن عبدالسلام الذي هاجم التحالف مع الصليبيين و ندد به في خطبة الجمعة بحضور الملك الصالح، الذي أصدر أمره بعزله عن القضاء و الخطابه ، فيمم العز نحو مصر، فأشار بعض رجال الصالح أن يسترضيه و يعيده حتى لا يحدث رحيله ثورة في أوساط المجتمع، فقال يكفيني من الشيخ لأعيده إلى ما كان عليه أن يقبل يدي، فلما جاءت رسل الملك إلى العز بهذا، قال لمحدثه : يا مسكين! و الله ما أقبل أن يقبل يدي فضلا عن أن أقبل يده ! و واصل سفره إلى مصر، التي أتاها و أخبار المغول تثير رعبا فيها، فراح يحشد الشعب المصري و يحرضهم على المواجهة و الإعداد و الاستعداد، و مضى يقنعهم بالجهاد و الثبات و أن الله سينصرهم، كما راح يقنع أمراء المماليك بالستعداد للحرب و إخراج المال و إنفاقه للجهاد ضد المغول . لما رأى الشعب انصياع أمراء المماليك للبذل و الجود و الإنفاق، تسابقوا معهم للجود و السخاء .. و تحركت البلد كلها، وأقيمت معسكرات التدريب فى كل مكان ، و تم حشد كل الطاقات للمعركة الفاصلة التي لها ما بعدها و ما قبلها أيضا. فالمعركة كانت تعني ضرورة التصدي لإسقاط مشروع المغول الهمجي كما كانت رد اعتبار و تحرير للممالك التي سقطت تحت حكم المغول. و لقد كانت معركة غيرت مجرى التاريخ، حيث تقابل مشروعان انتصار أحدهما سيغير مجرى التاريخ تبعا لثقافة و فكر المنتصر. فإما أن ينتصر الهمج و يكتسحون مصر وصولا إلى بلاد المغرب العربي و ويط أفريقيا، و إما أن تنتصر مصر فينتصر المشروع الإسلامي و لقد تضافرت كل الجهود للمعركة ؛ تضافر الجهد الشعبي و الجهد الرسمي و انطلقا معا في خندق واحد لمعركة مصيرية لا تحقق النصر لمصر وحدها، و لكنها تحققه للعالم الإسلامي كله. و كانت معركة عين جالوت التي قادتها قيادة شعبية من خلال العز بن عبد السلام ، و التحمت التحاما وثيقا بالقيادة الرسمية تحت راية المظفر قطز سلطان مصر، و كان يوم 25 رمضان 658 هجرية يوما من غرر أيام الدنيا، سجل لنفسه مكانا بين المعارك التاريخية: بدر، القادسية، اليرموك، و حطين .. و اليوم معركة عين جالوت تأخذ مكانها في صف التميز و المتميزين. إن المشاريع الظلامية إلى زوال، و لكن لابد لذلك من جهود شعبية و رسمية تعملان جنبا إلى جنب، و في خندق واحد، و تقف معه و خلفه كل الطاقات المادية و المعنوية ، فيبارك الله هذه الوحدة و الاتحاد و يجري النصر بمشيئته، و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء.