منذ بداية العدوان الصهيوني على غزة في أكتوبر 2023، والذي أسفر عن مقتل وجرح عشرات الآلاف من المدنيين وتدمير ممنهج للبنية التحتية المدنية، لم تُحرك هذه الجرائم ضمير المجتمع الدولي، في مشهد يعكس بوضوح سياسة ازدواجية المعايير، ويثير تساؤلات جدية حول طبيعة هذا العجز البنيوي في النظام الدولي وقدرته على التصدي للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. ومنذ استئناف الحرب في الثامن عشر من مارس/ آذار الماضي بعد هدنة استمرت نحو شهرين ارتفع عدد الشهداء إلى 1.522 شهيداً والمصابين 3 آلاف و834، ومجمل عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي منذ بدء حرب الإبادة إلى 50 ألفاً و886 شهيداً و115 ألفاً و875 مصاباً. وبدعم أمريكي مطلق يواصل الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة بحق الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، بهدف التهجير القسري وتصفية القضية الفلسطينية، وتمارس مجازر يومية على مرأى ومسمع العالم. في هذا التحليل، نناقش مواقف مجلس الأمن والمنظمات الدولية، مع التركيز على القرارات والتصريحات الصادرة منذ أكتوبر 2023، لفهم أعمق للأسباب السياسية والقانونية التي تكرّس الإفلات من العقاب وتؤكد هيمنة المصالح على مبادئ العدالة الدولية. ازدواجية المعايير في مجلس الأمن رغم صدور عدد من القرارات والبيانات حول غزة، إلا أن معظمها اتسم بالمساواة بين الضحية والجلاد، متجاهلا الحق المشروع للشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، وهو حق مكفول بموجب قرارات أممية سابقة واتفاقيات جنيف. وقد شكّل الفيتو الأمريكي حاجزا حاسما أمام أي قرارات ملزمة، حيث استخدمته واشنطن مرارا لحماية إسرائيل من المساءلة، مما عطّل أي تحرك جاد يضع حدا للجرائم المستمرة، إلى جانب أيضا الدعم المطلق بالسلاح ومعاقبة أي أصوات تساند القضية الفلسطينية. في 21 أكتوبر، أصدر المجلس بيانا رئاسيا عاما دعا إلى احترام القانون الدولي و"تحسين إيصال المساعدات"، لكنه لم يتضمن أي آلية واضحة للمحاسبة، رغم توثيق جرائم مثل استهداف المستشفيات والمدارس، وهو ما اعتبره مراقبون تواطؤا ضمنيا تحت غطاء الدبلوماسية. من المهم الإشارة إلى التناقض بين تحرك المجلس السريع إزاء الأزمة الأوكرانية، حيث فُرضت عقوبات على روسيا خلال أيام، وبين موقفه تجاه غزة رغم الانتهاكات الموثقة، مما يوضح كيف يُوظف مجلس الأمن كأداة لمصالح القوى الكبرى أكثر من كونه منصة لحماية السلم الدولي. مواقف المنظمات الدولية في 13 أكتوبر 2023، صرّح الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أن "الهجمات على المدنيين في غزة لا يمكن تبريرها تحت أي ظرف من الظروف"، ومع ذلك، لم تُترجم هذه التصريحات إلى إجراءات عملية، حيث فشل مجلس الأمن في اتخاذ قرار ملزم بسبب اعتراضات بعض الدول الكبرى. في 17 أكتوبر، أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة الهجمات ضد المدنيين الفلسطينيين وأكدت على ضرورة توفير حماية دولية للفلسطينيين، لكن هذه التصريحات ظلت دون تأثير حقيقي على الأرض، مما يعزز شعور الفلسطينيين بعدم العدالة. في تقريرها الصادر في نوفمبر 2023، أكدت اللجنة الأممية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أن الهجمات الجوية الإسرائيلية على غزة تشكل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، تنتهك القانون الدولي الإنساني، خاصة المادة 51 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف. ورغم ذلك، لم يُترجم هذا التقرير إلى محاسبة فعلية للأطراف المتورطة، بل استمرت الدول الكبرى في استخدام نفوذها السياسي لإيقاف أي تحرك حقيقي ضد إسرائيل، مما يضعف مصداقية الأممالمتحدة في معالجة القضايا الإنسانية. كانت منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" أكثر شجاعة في توثيق الانتهاكات الإسرائيلية في غزة. في 20 أكتوبر 2023، أصدرت "هيومن رايتس ووتش" تقريرا حول الجرائم الإسرائيلية وطالبت بفتح تحقيق دولي في هذه الجرائم، ومع ذلك، لم تُترجم هذه النداءات إلى تحركات قانونية حقيقية ضد إسرائيل، مما يعكس التباين الكبير بين الخطابات الإنسانية والإجراءات القانونية الفعلية المتخذة في مثل هذه الحالات. المحكمة الجنائية الدولية منذ بداية الحرب، تصاعدت الدعوات للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في الجرائم المرتكبة في غزة ومع أن هذه الدعوات لاقت دعما متزايدا من منظمات حقوق الإنسان، إلا أن التحقيقات التي كان من المفترض أن تبدأ بشكل جدي لم تثمر عن نتائج ملموسة. ويرجع هذا التعطيل إلى عدة أسباب رئيسية مثل الضغط السياسي من القوى الكبرى وتحديدا الولاياتالمتحدة، والذي حال دون إجراء أي تحقيقات في الجرائم المرتكبة في غزة، بل إن أمريكا هددت بفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة، مما يعكس هشاشة استقلال المحكمة أمام هيمنة الدول الكبرى. إن هذا العجز الدولي المتكرر أمام جرائم موثقة في غزة، يؤكد أن النظام الدولي لا يعاني فقط من الازدواجية، بل من خلل عميق في البنية القانونية والسياسية يجعل العدالة انتقائية. يجب على الدول المستقلة ومنظمات المجتمع المدني والائتلافات الحقوقية الدولية أن تضاعف جهودها في توثيق الجرائم، ودعم آليات بديلة للمحاسبة، مثل المحاكم الوطنية وفق مبدأ الولاية القضائية العالمية. وفي هذا السياق، يجب تعزيز دور الإعلام الاستقصائي والتعاون بين الصحفيين والمحامين الدوليين كي يشكل مسارا موازيا للضغط على المحكمة الجنائية لإعادة تفعيل ولايتها تجاه القضايا الفلسطينية. لا يجب أن تكون العدالة مرهونة بموقف فيتو، وإلا تحوّلت إلى سلعة تخضع لميزان الربح والخسارة السياسي.