على مدى سنوات الحرب، واجه المواطن اليمني ظروفًا معيشية قاسية، حيث ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وتدهورت قيمة الرواتب حتى لم تعد تكفي لأبسط احتياجات الحياة. هذا الانهيار الاقتصادي لم يكن مجرد أزمة مالية، بل تحوّل إلى أزمة أخلاقية واجتماعية، دفعت كثيرًا من الموظفين إلى الانزلاق نحو الفساد، إما بدافع الحاجة أو بفعل غياب الرقابة والمحاسبة. في المؤسسات التي تتيح فرصًا للربح، استغل بعض الموظفين مواقعهم لتحقيق مكاسب شخصية، بينما اضطر آخرون إلى ترك وظائفهم والبحث عن أعمال بديلة، حتى لو كانت خارج إطار القانون أو على حساب الالتزام المهني. وهكذا، تحوّل الفساد من سلوك فردي إلى ظاهرة عامة، أضعفت مؤسسات الدولة، وأفقدت المواطن ثقته في النظام، وأربكت مسار التنمية.
لكن الأخطر من ذلك أن هذا الفساد لم يكن مجرد نتيجة للظروف، بل أصبح أسلوب حياة لدى البعض، يُبرر ويُعاد إنتاجه، حتى وصل إلى مستويات لا تُطاق، تهدد ما تبقى من بنية الدولة ومقوماتها. وهنا، بدأت الدولة تدرك أن استمرار هذا الوضع يعني انهيارًا شاملًا، لا يمكن إصلاحه لاحقًا، فبادرت إلى اتخاذ خطوات اقتصادية ومعالجات جزئية تهدف إلى إعادة ضبط السوق، وتحسين سعر الصرف، وتوفير الحد الأدنى من الاستقرار.
ومع أهمية هذه المعالجات، فإنها لا تكفي وحدها. فبناء الدولة لا يتم فقط عبر السياسات المالية، بل عبر استعادة القيم، وإحياء الضمير، وإعادة الاعتبار للمسؤولية الفردية والجماعية. على كل من فسد أو أفسد أن يدرك أن المرحلة القادمة لا تحتمل التراخي أو التبرير. لا يمكن أن تستمر الأمور كما كانت، ولا يمكن بناء وطن على أنقاض الأخلاق.
إننا اليوم أمام لحظة فارقة، تتطلب صحوة وطنية شاملة، تبدأ من الموظف البسيط وتنتهي عند أعلى مستويات القرار. المطلوب هو إعادة التفكير في معنى الوظيفة، في دور المواطن، في مفهوم الدولة نفسها. المطلوب هو أن نعيد بناء دولة النظام، دولة القانون، دولة العدالة، دولة تُدار بالكفاءة لا بالمحسوبية، وتُخدم بالضمير لا بالمصلحة.
هذه دعوة لكل من لا يزال يؤمن بأن الوطن يستحق الأفضل، دعوة للعودة إلى الرشد، إلى النزاهة، إلى الإيمان بأن الإصلاح يبدأ من الذات، وأن التغيير الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل من داخل كل فرد قرر أن يكون جزءًا من الحل، لا امتدادًا للمشكلة.
الوطن لا يُبنى باليأس، ولا يُستعاد بالتبرير، بل بالإرادة الصادقة، والعمل النزيه، والوعي بأن ما فسد يمكن أن يُصلح، إذا توفرت النية، وتكاتفت الجهود، وارتفعت الأصوات التي تقول: كفى فسادًا... آن أوان الصحوة.