مع حلول الذكرى الثالثة والستين لثورة 26 سبتمبر 1962، التي أنهت حكم الإمامة وأرست مداميك الجمهورية، يعيش اليمنيون مواجهة مفتوحة مع مليشيا الحوثي التي تسعى إلى طمس معالم الثورة وإحياء مشروع الإمامة بوسائل قمعية وأدوات دعائية تسيطر بها على المجتمع. وفي تناقضٍ صارخ يكشف حجم خوف المليشيا وفزعها من تاريخ الثورة الجمهورية؛ حوّلت الجماعة العاصمة صنعاء والمدن الخاضعة لها إلى ساحات ضخمة لاحتفالات ذكرى انقلابها المشؤوم 21 سبتمبر، في حين فرضت حصارًا أمنيًا مشددًا على أي مظهر من مظاهر الاحتفاء بذكرى ثورة 26 سبتمبر.
أمام هذه المعطيات، تتجاوز المواجهة بين مليشيا الحوثي واليمنيين حدود السياسية؛ لتمتد إلى الهوية والتاريخ، حيث تعمل المليشيا على فرض سردية جديدة تحاول تقديم تاريخ انقلابها كمرجعية وطنية، فيما يتمسك الشعب اليمني بثورة 26 سبتمبر باعتبارها الأصل الذي لا يمكن تجاوزه أو شطبه.
تسخير الدولة لاحتفالات الانقلاب
منذ مطلع سبتمبر الجاري، حولت مليشيا الحوثي العاصمة صنعاء والمدن الخاضعة لسيطرتها إلى ساحات ضخمة للاحتفاء بذكرى انقلابها على مؤسسات الدولة في 21 سبتمبر 2014، ورفعت اللافتات العملاقة وصور قادتها في كل شارع، وصرفت مبالغ ضخمة من خزينة الدولة على تجهيز الساحات والعروض العسكرية والدعائية.
في المقابل، فرضت المليشيا إجراءات أمنية مشددة لمنع أي مظاهر احتفال بثورة 26 سبتمبر، حيث تؤكد شهادات محلية أن العشرات من الناشطين والطلاب تعرضوا للاعتقال لمجرد رفع علم الجمهورية أو ترديد شعارات الثورة، وسط تهديدات متكررة بمواجهة أي تحركات شعبية بالقوة.
يقول أحد سكان صنعاء ل"الصحوة نت": "أصبح الاحتفال بالثورة جريمة، بينما يُجبر الطلاب والموظفون والجنود على المشاركة في فعاليات انقلاب 21 سبتمبر." أما الناشط مراد، وهو طالب جامعي، فيوضح: "تُصرف ملايين الدولارات على احتفالات الانقلاب بينما يعيش المواطنون الجوع والفقر."
محاولات محو سبتمبر
لم تكتفِ مليشيا الحوثي بالقمع الميداني، بل عملت على تغيير المناهج الدراسية لحذف كل ما يرتبط بثورة 26 سبتمبر ورموزها، واستبدلت ذلك بخطاب يمجّد الإمامة ويشرعن سلطة الولاية، في محاولة لفرض سردية جديدة على الأجيال الناشئة وإعادة كتابة التاريخ وفق أهواء سلالية.
وتهدف هذه التغييرات إلى تحويل انقلاب 21 سبتمبر إلى حدث محوري في الوعي الجمعي، وتصوير ثورة 26 سبتمبر كخطأ تاريخي، بما يسمح للجماعة بتكريس مشروعها السياسي والفكري عبر المدرسة والإعلام دون الحاجة لمواجهة مفتوحة.
وتشير تقرير إعلامية إلى أن مليشيا الحوثي حوَّلت المدارس الواقعة تحت سيطرتها إلى منصات دعائية، حيث يُجبر الطلاب على حفظ خطب وملازم قادة المليشيا، فيما تُصادر أي مواد تربطهم بمبادئ الجمهورية، وهو ما يراه مراقبون أخطر أدوات الحرب على سبتمبر وأكثرها تأثيرًا على المدى الطويل.
أصوات من الشارع
بين القمع الأمني والدعاية الممنهجة التي تفرضها مليشيا الحوثي، يسعى المواطنون جاهدين للحفاظ على ذاكرة ثورة 26 سبتمبر حيّة في وجدانهم. وفي هذا السياق، استطلع "الصحوة نت" عددًا من الآراء الشعبية حول دلالات الثورة ومحاولات المليشيا طمسها.
التاجر فؤاد تحدث عن مدى صعوبة الاحتفال بذكرى ثورة سبتمبر، وسط قيود مشددة وتهديدات متكررة من المليشيا. وقال: "قد يمنعونا من الاحتفال في الشوارع، لكننا نحتفل في بيوتنا ونحكي لأولادنا عن سبتمبر، فهو أصلنا وجذورنا التي لا يمكن اقتلاعها."
بدورها، أوضحت الطالبة أمل ل"الصحوة نت" أن الاعتقالات والتهديدات، وحملات التخويف التي تشنها مليشيا الحوثي ضد المواطنين؛ لن تغيّر من حقيقة أن "26 سبتمبر هو الأصل، وأن 21 سبتمبر مجرد يوم أسود في تاريخ اليمن سيزول مهما طال الزمن."
أما الموظف الحكومي سعيد، فيشير إلى المأساة الاقتصادية: "تُصرف ملايين الدولارات على احتفالات 21 سبتمبر، بينما أولادنا جوعى ولم نستلم رواتبنا منذ سنوات. يريدون منا التصفيق لانقلابهم، فأي عدل هذا؟"
ويقول سائق الأجرة علي ببساطة: "كل عام نعيش الخوف نفسه. يمنعون الاحتفال، وإذا خرجنا نهتف يطلقون النار أو يعتقلون الشباب. لكن مهما حاولوا، 26 سبتمبر - في قلوبنا- ثابت وطني لا يمكن الإخلال به."
المقاومة الشعبية للحفاظ على إرث سبتمبر
على الرغم من التشدد الأمني وتضييق الخناق على الأنشطة المدنية، يبذل اليمنيون جهودًا حثيثة للحفاظ على رمزية ثورة 26 سبتمبر حيّة، من خلال اللقاءات الأسرية وتداول أحداث الثورة التاريخية والتوعية بأهميتها في المجالس والطرقات ومواقع التواصل الاجتماعي.
يسعى المواطنون لإبقاء الاحتفالات الرمزية حاضرة، من خلال ترديد الشعارات الوطنية في منازلهم، وتثقيف الأطفال والشباب بدلالات الثورة، لتعويض الفقد الذي تسببت فيه سياسات الحوثي في طمس الوعي التاريخي والهوية الوطنية.
ويؤكد ناشطون أن المبادرات المدنية هذه تعكس صمود اليمنيين ورفضهم الرضوخ لمحاولات المليشيا فرض سردية مزيفة، حيث اعتبروا أن الحفاظ على الذاكرة الجمعية للثورة رسالة حقيقية للقوى التي تحاول إعادة التاريخ لصالح مشروع الإمامة.
وتحمل هذه المقاومة اليومية التي يتصدرها المواطنون في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي، تحمل قوة رمزية كبيرة، إذ تضمن أن الأجيال الجديدة ستتعرف على الثورة الحقيقية، وأن سبتمبر ستظل حاضرة في وجدان الشعب مهما طال الزمن.
صراع على الذاكرة
في ظل هذا الواقع، يبقى الصراع على تاريخ اليمن وهويته الوطنية مستمرًا، حيث تركز المليشيا جهودها على طمس ثورة 26 سبتمبر وتقويض قيم الجمهورية، في حين يسعى الشعب للحفاظ على إرث الثورة حيًا في الوجدان الشعبي، ما يجعلها معركة حقيقية على ذاكرة الوطن.
وقد امتدت محاولات الطمس الحوثية إلى الفضاءات التعليمية والثقافية والإعلامية، حيث يتم تقديم أفكار ورموز السلاسة مع هالة من التقديس، في حين تُصادر الرموز الوطنية ويتم استهدافها، ما يهدد إدراك الأجيال الجديدة للثورة ودورها في بناء الدولة الحديثة.
وتشير الوقائع إلى أن استمرار حرب مليشيا الحوثي على الذاكرة الوطنية يعكس خوفها من مواجهة الرمزية الحقيقية لثورة سبتمبر المجيدة، ويكشف هشاشة مشروعها الطائفي أمام إرادة الشعب في الحفاظ على إرث الجمهورية ومكتسباتها الوطنية.