كان الشيخ عبدالمجيد الزنداني رجلًا يختصر في حضوره معنى الثورة نفسها؛ عالم دين يعلّم، وسياسي يحشد ويخطب، وصوتٌ لا يهدأ بين الناس. لم يكن فردًا في سياق التاريخ، بل كان صانعًا لجزءٍ من مساره، يربط القيم بالدولة، والقبيلة بالجمهورية، والإيمان بالفعل السياسي، هكذا يصفه من عرفوه. وُلد الزنداني في بيئة مشبعة بروح النضال والمقاومة. كان والده، الشيخ عزيز الزنداني، من ثوار عام 1948، وقد شارك مع الثوار في الاستيلاء على منطقة السدة والنادرة التي كان عاملاً عليها. لكن محاولة الثورة فشلت، واضطر والده إلى الهرب إلى عدن، ولحقه الشيخ عبد المجيد، وكان عمره حينها ثماني سنوات. يروي نجله، د. عبد الله عبد المجيد الزنداني في تصريحات خاصة للصحوة نت: "ارتبط والدي بالثورة من ارتباط والده بها، وكان عمره حينها ثماني سنوات، وبهذه البيئة المبكرة بدأ يتفتح وعيه على مفاهيم الظلم والحرية والنضال". في عدن، التحق الزنداني بالمدارس النظامية، وكانت ذاكرته مرتبطة بالثورة من خلال ارتباط والده بها، الذي أصبح مرجعًا للثوار الفارين إلى المدينة. ولادة الوعي السياسي عندما بلغ المرحلة الإعدادية، أرسله والده إلى القاهرة ليكمل تعليمه هناك، حتى التحق بكلية الصيدلة. هناك انخرط بالحركة الطلابية اليمنية، التي لعبت دورًا مهمًا في تحريك طلاب الجامعة نحو التفكير في مواجهة الظلم وتأسيس قوى وحركات شبابية، ليعودوا لاحقًا مؤثرين في اليمن. وكان شقيقيه، الدكتور عبد الواحد واللواء أمين الزنداني، ضمن هؤلاء الطلاب. وقد صنعت هذه البيئة العائلية والطلابية شخصية شابة مهيأة للنضال والفكر. يضيف نجله عبدالله: "هذا الارتباط الأول له في القاهرة، عندما كان طالبًا وفي تلك الفترة كان متأثرًا بوالده أكثر من أي شخص آخر". في القاهرة، وجد الشيخ نفسه في قلب حركة طلابية يمنية نشطة، تُعنى بمواجهة الظلم والاستبداد. كان هذا الانخراط نقطة تحول في حياته، حيث تعلّم كيفية تنظيم القوى الطلابية وإعدادها لتكون جزءًا فاعلًا في بناء اليمن الجديد. خلال تلك المرحلة، تعرّف الزنداني على شخصية مهمة في تاريخ اليمن، وهي شخصية الزبيري، الذي وصل إلى القاهرة قادمًا من باكستان. يقول نجله: "أثناء الدراسة في القاهرة، تعرّف والدي على الزبيري، وتكونت علاقة قوية بينهما، حيث أصبح قريبًا جدًا منه ومرشدًا للطلاب". بداية العلاقة كانت حين علم الطلاب بوصول الزبيري، وتم تكليف الزنداني وآخرين للقاء به، وبايعوه أميرًا لهم، وبدأ النشاط العملي تحت تأثيره في الثورة. العودة إلى اليمن: ملازم الزبيري بعد عودة الزبيري إلى اليمن عقب الثورة، عاد الزنداني معه ليصبح ملازمًا له في كل نشاطاته. لم يكن مجرد رفيق، بل أصبح المرافق الشخصي للزبيري، وأسّس معه ما كان يُعرف باسم "حزب الله". شارك الزنداني مع الزبيري في العديد من المؤتمرات القبلية مثل مؤتمري خمر وعمران، ونظم مظاهرات، وأصدر صحيفة، كما كان صلة الوصل بين الزبيري ومشايخ القبائل. وكان الزبيري له التأثير الكبير في النشاط السياسي والحركي للزنداني. يروي نجله عبدالله بعض القصص من تلك الفترة: "كان الزبيري يرسل والدي بين فترة وأخرى إلى قبائل حاشد وإلى الشيخ عبدالله حسين الأحمر، وكان الوسيط بين الزبيري ومشايخ القبائل." ويضيف رواية طريفة عن ولائه وحرصه على تنفيذ أوامر الزبيري: "عندما خطب والدي، والدتي، ابنة القاضي والمناضل عبد السلام صبرة، وقد خطبها له الزبيري، تفاجأ الجميع بأن الزنداني لم يكن موجودًا يوم العرس. فقال أحدهم: سنسأل الزبيري الذي يعرف بالتأكيد أين هو. وذهبوا إليه وسألوه: أين العريس؟ فأندهش الزبيري: اليوم عرسه! لقد أرسلته إلى مشايخ في أرحب، ولم أكن أعلم، ولم يخبرني هو أيضًا. قال لهم: عندما يعود سأخبره ويأتي إليكم، فتم تأجيل العرس لليوم التالي. رفض والدي أن يخبر الزبيري ليحفظ طلبه، ورأى أن تنفيذ أمره خير له من عرسه." كما تولى الزنداني مهامًا دقيقة وحساسة، أبرزها تكليفه من قبل الزبيري بلقاء قائد القوات المصرية في الجوف لنقل رسالة مهمة: "من ضمن القصص التي كلفه بها الزبيري، عندما كانوا في الجوف، وأراد القائد المصري في تلك المنطقة لقاء الزبيري ليقوم الأخير بتكليف الشيخ عبدالمجيد بالذهاب إلى هذا القائد، وقال له: أرسلني الزبيري. فقال له المصري: أخبره، من قال له إننا نريد قتله، ثم أضاف هذا الكلام غير صحيح. فعاد الوالد للزبيري حاملا تلك الرسالة الرسالة، فقال الزبيري: لم يخبرنا أحد بذلك، وهذه رسالة تحذير من القائد بأن هناك من يخطط ويتآمر لقتلنا وعلينا أن نأخذ الحيطة والحذر، فجزاه الله عنا خيرًا." "الدين والثورة": صوت الجمهورية حين اندلعت ثورة سبتمبر، كان صوت الجمهورية بحاجة لمن يوضح أن النظام الجديد لا يتناقض مع قيم الدين. هنا برز دور الزنداني الإعلامي المبكر عبر إذاعة صنعاء، حيث قدم أول برنامج بعنوان "الدين والثورة"، شرح فيه أن النظام الجمهوري متسق مع قيم الإسلام في العدل والحرية. يعلق البرلماني زيد الشامي: "كان للشيخ الزنداني جهود مشهودة في التصدي للاستبداد والفكر الإمامي الكهنوتي، وكان مشاركًا في توعية الشعب عبر إذاعة صنعاء، وواصل على طريق الزبيري راية التوعية والتنوير وتثبيت الجمهورية." أما نجله عثمان فيصف تلك المرحلة في تصريحات خاصة للصحوة نت قائلا: "كان والدي في مقدمة الشباب العاملين مع أستاذه؛ يحمل راية التعبئة والتحشيد، ويكتب الشعارات، ويهيئ اللقاءات". بهذه الجهود، ساهم الزنداني في بناء قناعة شعبية بأن الثورة لم تكن انقلابًا على الدين، بل انتصارًا لقيمه الكبرى في الحرية والعدل والمساواة. التعليم: معركة العقول أدرك الزنداني منذ وقت مبكر أن معركة الجمهورية ليست فقط في الميدان العسكري، بل في التعليم أيضًا. تولى إدارة الشؤون العلمية بوزارة التربية، وألف كتبًا مؤثرة أبرزها: "التوحيد" (1968)، وكتب "الإيمان"، "طريق الإيمان"، وسلسلة "الواجبات الدينية". ويقول عبدالله: "ساهم في تأسيس التعليم وتأليف كتب للمراحل الأساسية والإعدادية حتى عام 2002، بما في ذلك كتب سلسلة تعليم الواجبات الدينية وكتب التوحيد والإيمان وغيرها." كما يؤكد الكاتب خالد بُريه في تصريحات خاصة للصحوة نت: "عمل الشيخ عبد المجيد مع العديد من أبناء الوطن بمختلف توجهاتهم للتخلص من إرث الإمامة ومخلّفاتها، وإماتة خرافاتها، ودفن جهلها. بزغت إلى النور فكرة المعاهد العلمية التي سحبت البساط من الفكر الإمامي، ونشرت الوسطية في مختلف بقاع اليمن الكبير، وأزاحت الغشاوة عن أبناء القبائل الذين كان يُراد لهم أن يكونوا بيادق في معارك الفناء." بعد اغتيال الزبيري، انتقل الزنداني إلى عدن حيث عمل مديرًا لمعهد النور العلمي، ثم عاد إلى صنعاء لتولي مناصب مهمة في وزارة التربية والتعليم، منها إدارة الشؤون العلمية. وواصل جهوده في التوعية للحفاظ على قيم الجمهورية وتعليم الشباب. كما أسس جامعة الإيمان والتي استقطب آلاف الطلاب من دول عربية وإسلامية. منفى مؤقت ورسالة مستمرة بحسب البرلماني الشامي، اضطر الزنداني لمغادرة صنعاء في عهد الرئيس عبد الرحمن الإرياني ليستقر في آل أبو جبارة شمال صعدة، حيث أسس معهدًا للتعليم. وأكد الشامي أن رسالته التعليمية لم تتوقف رغم الظروف السياسية. لكن في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي عاد الزنداني بقوة، فعُين رئيسًا لمكتب التوجيه والإرشاد. وقد نسج علاقات واسعة مع علماء كبار مثل محمد الغزالي، يوسف القرضاوي، أبو الحسن الندوي، وجعفر شيخ إدريس، لتعزيز الفكر الوسطي في اليمن. بعد اغتيال الزبيري: الوفاء بالنهج كان استشهاد الزبيري صدمة كبرى، وكان الزنداني حاضرًا بجواره في لحظاته الأخيرة. لكنه واصل السير على خطاه، متبنيًا نهجه الفكري والسياسي، ومثابرًا على حمل راية التنوير والتعليم. يروي نجله عثمان ما قاله والده عن تلك اللحظة "عندما رأيت الأستاذ الزبيري ملقى على الأرض اسودّت الدنيا أمامي وشعرت بأن ظهري قد انكشف". لاحقًا شارك الزنداني في الحياة السياسية كمؤسس لحزب التجمع اليمني للإصلاح، لكنه ظل يُعرف أولًا وأخيرًا برفيق الزبيري وصوت الثورة. ويروي نجله عبدالله:"ظل والدي يرافق الزبيري في حله وترحاله، ولا يكاد يكون هناك نشاط دون أن يكون معه." إرث ممتد حتى الرحيل عاش الزنداني حياة مليئة بالعطاء والجدل، لكنه سيظل في الذاكرة كشاب أقنع القبائل بأن الجمهورية لا تعادي الدين، والمعلم الذي وضع اللبنات الأولى لمناهج تعليمية جديدة، والصوت الذي مزج بين الدين والثورة. ظل سبتمبر بالنسبة له وعدًا بالحرية والكرامة، حمله الأوائل على أكتافهم وورثه جيل بعد جيل، وكان عبد المجيد الزنداني، حتى رحيله، جسرًا بين الفكر الديني والوعي الوطني، بين أحلام الجيل الجديد وتجربة الثورة، بين الدين والجمهورية.