محمد المخلافي في اليمن، لا يكاد يمر يوم من دون أن يتسلل القات إلى تفاصيل الحياة؛ فقد أصبح جزءًا من نسيجها اليومي، وطقسًا متجذرًا في ذاكرة الناس وعاداتهم منذ زمن بعيد. مع انقضاء ساعات الظهيرة، تبدأ ملامح المقيل، حيث يتجمع الأصدقاء في مجالس مجهزة تُعرف ب"الدواوين"، لقضاء ساعات يمضغون فيها القات ويتبادلون الأحاديث بانسجام، ويستمعون إلى الأغاني اليمنية التراثية. بعضهم يفضل دفء بيوتهم، فيقضون وقتهم مع أسرهم في أجواء من الأنس والهدوء. وحتى في الحدائق العامة، كثير من روادها يمضغون القات تحت ظلال الأشجار أو في خيام صغيرة، ويصاحب ذلك أحيانًا تدخين المعسل أو الشيشة، بينما يلعب الأطفال حولهم في أجواء من المرح والسكينة. وهناك من يفضل مضغ القات داخل سياراتهم في أماكن فسيحة أو مرتفعة عند مداخل المدن، كما هو الحال في صنعاء في مناطق عصر وشارع الخمسين والعشاش، حيث يمتزج الطقس الاجتماعي مع مشهد المدينة اليومي. كما تشارك النساء أحيانًا في هذا الطقس، إذ يجتمع الكثير منهن بعد العصر في أحد البيوت فيما يُعرف ب"التفرطة"، حيث يمضغن القات ويتبادلن الأحاديث، ويصاحب ذلك أحيانًا تدخين الشيشة أو المعسل أو المداعَة، لتصبح هذه اللحظات مساحة للراحة واللقاء بعيدًا عن صخب الحياة اليومية. قد تلتقي بصديقك في قاعة الدراسة، أو تصادفه عابرًا في الشارع، أو تجلس معه على طاولة أحد المطاعم، أو في ركن مقهى. لكن أن تلتقيه في مقيل القات فالأمر مختلف، إذ يحمل طابعًا خاصًا لا يشبه أي لقاء آخر. ففي جلسة القات تذوب الفوارق، وتكتسب الكلمات نكهة مميزة. قد يكون أحدهم لا يملك سوى ثمن ذلك العشب الأخضر، ومع ذلك تراه في المقيل حاضرًا بكل ثقله، يتحدث ويناقش كأنه يملك الدنيا وما فيها. في هذه الجلسات يمضي الناس ساعات طويلة، قد تصل إلى أربع ساعات على الأقل، وغالبًا أكثر من الوقت الذي يمنحونه لأسرهم. هنا يعيشون لحظات مملوءة بالنشوة والارتياح، يتبادلون خلالها الأحاديث بحميمية، ويتعرف كل واحد منهم إلى طباع صديقه كما لو كان أقرب إليه من أهله. أنا واحدًا من هؤلاء. طوال الأسبوع أعود إلى البيت من العمل منهكًا في وقت متأخر، لكن في عطلة الخميس والجمعة يكون للمقيل نكهة خاصة. غالبًا نلتقي في مقيل الأستاذ فيصل سعيد فارع، إحدى الهامات الثقافية والاقتصادية في البلاد، برفقة مجموعة من الأصدقاء، منهم الدكتور عبد الجليل سلام ذو الروح الجميلة، وأخوه الأستاذ أمين سلام، التربوي والفنان الأنيق، والمهندس جمال أبو الرجال، والأستاذ نشوان الطيب، وآخرون. منذ مساء الأربعاء يتواصل معي الدكتور عبد الجليل ليؤكد موعد اللقاء، ولا نبدأ الجلسة إلا بعد أن نتقاسم شيئًا من الشوكولاتة. تمضي الساعات بخفة، نضحك ونتبادل النكات، ونستمع إلى الأغاني اليمنية التراثية، كما ندخل في نقاشات حول مواضيع متنوعة، منها طبيعة البلاد الساحرة، ولهجات اليمن المختلفة، وأيام الطفولة، بعيدًا عن السياسة المرهقة. ما أجمل تلك اللحظات ونحن نستمع إلى الأستاذ فيصل وهو يتحدث عن تجاربه الطويلة كأحد رواد الاقتصاد، ودوره الريادي في إدارة مؤسسة السعيد الثقافية. أما يوم الجمعة، فنلتقي في أماكن أخرى مع أصدقاء آخرين، غالبًا عند الأستاذ فؤاد المقطري، بصحبة الدكتور فاروق أحمد حيدر والدكتور توفيق القدسي. بعد الصلاة، نجتمع هناك ونتناول الغداء التعزي: عصيد مع الوزف، صَانونة، وزربيان. بعدها تبدأ الجلسة التي تستمر حتى صلاة المغرب، حيث نمضغ القات، إلا أن الدكتور فاروق لا يمضغه على الإطلاق، فهو من الرافضين والمنتقدين لهذه العادة. تتخلل الجلسة نقاشات ثرية، غالبًا نستمع خلالها إلى الدكتور فاروق وهو يسرد قصصًا وحكايات عن تاريخ اليمن القديم، فيما يتحفنا الدكتور توفيق بنكاته الجميلة وضحكاته التي تملأ المكان. ومع ذلك، تنتشر هذه الأيام عادة سيئة بين الكثير من الشباب، حيث أصبحوا يمضغون القات في المساء حتى وقت متأخر من الليل، ثم ينامون خلال النهار، عاطلين عن العمل، وأجسامهم نحيفة، ووجوههم شاحبة نتيجة قلة النوم المستمرة. القات ليس عادة جديدة في اليمن، فالبعض يروي أن بداياته ارتبطت بمجالس العلماء والمتصوفة الذين كانوا يبحثون عن وسيلة للسهر واليقظة. ومع مرور الوقت، انتقلت هذه العادة إلى عامة الناس، لتصبح جزءًا من الحياة اليومية وطقسًا ملازمًا للأفراح والمناسبات، وحتى مجالس الصلح. شجرة القات نفسها جزء لا يتجزأ من المشهد اليمني. فهي شجرة دائمة الخضرة، قد يصل ارتفاعها إلى عدة أمتار، وأوراقها المسننة تُقطف طرية لتصل سريعًا إلى الأسواق. ومع ذلك، فهي تستهلك كميات كبيرة من المياه، ما يجعلها تنافس محاصيل أساسية مثل القمح والبن. والأسوأ أن الكثير من هذه الأشجار تُرش بالمبيدات لتسريع نموها وجعل أوراقها أكثر جاذبية، وهو ما يترك آثارًا صحية سلبية على من يستهلكها. القات يمنح ماضغيه شعورًا مؤقتًا بالنشاط واليقظة، لكنه يخفي وراءه وجهًا مظلمًا: أرقًا مستمرًا، فقدانًا للشهية، جفافًا في الفم، وقد تصل الآثار إلى مشكلات صحية أكثر خطورة مثل ارتفاع ضغط الدم واضطرابات الجهاز الهضمي. اقتصاديًا، يستهلك القات جزءًا كبيرًا من دخل الأسر ويشغل مساحات واسعة من الأراضي الخصبة. وبينما يحقق أرباحًا للمزارعين والتجار، فإنه في الوقت نفسه يوسّع دائرة الفقر ويقلل من إنتاج الغذاء. أما بيئيًا، فهو يستنزف المياه الجوفية في بلد فقير بالماء أصلًا، ما يشكل تحديًا حقيقيًا لمستقبل الزراعة واستدامة الحياة في اليمن. وبين من يعتبر القات عادة لا يمكن التخلي عنها لأنها جزء من الهوية، ومن يراه كارثة تلتهم صحة الناس واقتصادهم وبيئتهم، يبقى الجدل حوله مستمرًا بلا نهاية.