لطالما كان وادي زبيد، بأرضه الخصبة ومياهه الغزيرة، ليس مجرد مورد طبيعي، بل هو شريان الحياة الذي تدفق معه العمران والعلم والتجارة ليُنشئ ويُغذي مدينة زبيد التاريخية، إحدى أروع حواضر اليمن والعالم الإسلامي. إن القصة الكاملة لوادي زبيد تتجاوز الحدود الجغرافية لترتبط بتاريخ حضارة، واقتصاد مزدهر، وميراث بيئي وثقافي فريد. أولاً: الاقتصاد المزدهر.. سِرّ ازدهار الحاضرة تتركز الأهمية الاقتصادية لوادي زبيد، والتي كانت الركيزة التي قامت عليها عاصمة اليمن لقرون، في عدة عوامل محورية: * الخصوبة الزراعية الاستثنائية: يتميز الوادي بخصوبة تربته وغزارة مياهه، خاصةً في مواسم الأمطار والسيول التي تتدفق من الجبال لتغذي المدينة والمزارع. هذه الميزة جعلته منطقة إنتاج رئيسية لا تُضاهى. * تنوع المحاصيل الغذائية: أثمرت خصوبة الوادي في إنتاج محاصيل زراعية متنوعة ووفيرة، في مقدمتها الحبوب الأساسية ك (الذرة البيضاء - القيرع)، والدخن، والدجر، والذرة الشامية، بالإضافة إلى الفواكه والخضروات التي دعمت الاقتصاد المحلي وعززت الأمن الغذائي. * دعم النشاط التجاري والصناعي: لم تقتصر أهمية الزراعة على الغذاء، بل كانت هي الوقود للنشاط التجاري والصناعات المحلية في مدينة زبيد، مما حولها إلى مركز للتجارة العالمية في عصور ازدهارها. ثانياً: جذور الحضارة.. وادي زبيد ومدينة العلم يرتبط الوادي ارتباطًا وثيقًا بمدينة زبيد نفسها، المصنفة كأحد أهم المراكز الحضارية والتاريخية في العالم الإسلامي، حيث يبرز دورهما معًا: * مهد التأسيس والاستقرار: قبل إنشاء مدينة زبيد كحاضرة إسلامية في عام 204ه ، كانت المنطقة المحيطة بها عبارة عن أراضٍ زراعية خصبة تابعة لوادي زبيد ووادي رماع. هذا يؤكد أن الوادي كان عامل الجذب الأساسي للاستقرار البشري، فالماء والزرع هما أساس العمران. * داعم الازدهار العلمي: أسهمت الموارد المستدامة التي يوفرها الوادي في استقرار وتطور مدينة زبيد، التي أصبحت عاصمة لليمن لقرون ومركزاً عالمياً للعلم والعلماء، حيث ضمت المئات من المدارس والمساجد. * المعالم والآثار التاريخية: تقع على أطراف الوادي بعض الآثار والمعالم التاريخية للدولة الرسولية، مما يؤكد أهميته ليس فقط كمركز زراعي، بل كمنطقة استجمام شتوي وعمران تاريخي لأهل السلطة والجاه. ثالثاً: الوادي، البيئة، والميراث الروحي تتعدى أهمية وادي زبيد الجانب الاقتصادي والتاريخي لتشمل دوراً حيوياً في الاستدامة البيئية واحتضان المآثر الروحية: * تغذية المخزون الجوفي: يُعد الوادي من الأودية التي تتدفق فيها السيول بغزارة موسمياً، وهو يلعب دوراً حيوياً في تغذية المخزون الجوفي للمياه في المنطقة التهامية، وهو مفتاح الاستدامة الزراعية والمعيشية. * تلطيف الأجواء: يساهم الغطاء النباتي والكثافة الزراعية في الوادي ب تلطيف أجواء المنطقة التهامية الحارة، مما يجعله واحة خضراء في بيئة شبه صحراوية. * مسجد معاذ بن جبل: تزداد أهمية الوادي الروحية باحتضانه لرأس جامع الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه. كان هذا المكان محط رحاله ومقصد استراحته عند قدومه من المدينةالمنورة إلى الجند، وعند عودته من الجند نظراً لتوفر المرعى والماء المتدفق. ويُروى أنه خط مكان المسجد وترك أحد مرافقيه للإشراف على بناء هذا المسجد، وصلى فيه عند عودته، داعياً للمشرف الذي توفاه الله بعد اكماله البناء، لتكون هذه النقطة من الوادي منارة للإيمان منذ فجر الإسلام. رابعاً: كنوز الأوقاف.. ميزة زبيد الفريدة إن أهم ما يميز وادي زبيد عن باقي أودية تهامة هو كثرة أوقافه؛ فمعظم أراضي الوادي هي ممتلكات وقفية (الغلول) مُخصصة لخدمة المجتمع والعلم. * الريع لدعم التعليم: كان الريع الكبير الناتج عن هذه الأوقاف يُصرف على صيانة المدارس والمساجد في المدينة، وإعاشة القائمين عليها، وإقامة المصالح والثغور. * ميراث السلاطين والأمراء: كانت أطيان ومزارع الوادي مُحسّنة ومُوقفة منذ أيام الدولة الزيادية والدول التي تلتها، فقد ذكرت المصادر في هذا الشأن بأن ملوك الدولة الرسولية، والدولة الأيوبية قد أولوا اهتماماً بالغاً بذلك، حيث سعى الملك المعز إسماعيل بن طغتكين ووالده لتخصيص أوقاف ضخمة، خاصة من الأراضي الزراعية الخصبة في الوادي (كوادي الحُريب والجرب والمسلب)، لدعم المساجد ودور العلم، وعلى هذا المنوال سار ولاة وأمراء الدولة العثمانية وزوجاتهم كن يشترين الأراضي ويُوقفنها، دليلاً على إدراكهم لقيمة الوادي وضرورة استدامة العمل الخيري. دور المرأة الريادي فقد برز مساهمة المرأة الرسولية السيدة الشمسية، التي أسست المدارس وأوقفت عليها أراضي في الوادي للإنفاق على تعليم القرآن والحديث وكفالة الأيتام، مما جعل زبيد "مدينة العلم والعلماء" بفضل سخاء المحسنين والمحسنات على حد سواء. * الحفاظ على الوقف: الإيجابي والمُلفت في وادي زبيد هو الحفاظ على هذه الأوقاف، على عكس ما حدث في وديان تهامة الأخرى، مثل وادي سردد ومور وغيره التي شهدت بيعاً للكثير من الأراضي الوقفية. ويُعزى هذا الحفاظ إلى الروح التدينية العالية والصدق والأمانة التي يتمتع بها أغلب أهل زبيد الأصيلين وصلاح القائمين عليها. إن هذه الخصال الحميدة، التي قلّ أن تجدها في بلدات السهل التهامي، ليست غريبة عليهم. فقد وصفهم الصادق المصدوق عليه وآله أفضل الصلاة والسلام في الحديث الشريف بقوله: "أن الأشعريين إذا أرملوا جمعوا كل ما في بيوتهم واقتسموه بالسوية، فهم مني وأنا منهم"، ودعا لهم بالخير. خاتمة: باختصار، يمثل وادي زبيد نموذجاً للعلاقة التكاملية بين الموارد الطبيعية والازدهار الحضاري. فكانت خصوبته هي الأساس الذي قامت عليه مدينة زبيد التاريخية لتصبح منارة للعلم والتجارة، وما زال حتى اليوم شاهداً على أصالة تراث وحضارة. رعى الله زبيد تلك البلدة الطيبة ورعى الله وادي تريم وأهله، فهذه بلدات عشت فيهما، إحداهما في شرق اليمن والأخرى في غربه، وادي زبيد ووادي تريم وأهلهما سقاهم الله ورعاهم.