كان يوم الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل أسعد يوم في حياة الإنسانية، ففيه كان ميلاد إمام الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم الرحمة المهداة للعالمين في زمن كانت الإنسانية في أشد ما تكون حاجة إليه ليعيد للإنسان إنسانيته وكرامته الممتهنة وحقوقه الضائعة ويخرج الناس من الظلمات إلى النور ويقود الإنسانية إلى سبيل رشدها ويقوم مسيرة حياتها حتى تستقيم على صراط الله المستقيم ومنهاجه الأقوم الذي هو وحده سبيل نجاتها من خسران حياتها الأولى والآخرة وسبيل لنجاحها وفلاحها وسعادتها الحقيقية في دنياها وأخراها. لقد ولد النبي الكريم والإنسانية غارقة في ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمات الجهل والجاهلية وظلمات الشرك والوثنية وظلمات الظلم والطغيان فكان يوم ميلاده، صلى الله عليه وسلم، يوم ميلاد النور الذي أفاضه الله على عباده الذي أخبرنا الله عنه بقوله: (لقد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور)، وقال عن حامله (ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً. وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً). لقد كانت الإنسانية في أشد ما تكون حاجة إلى نور العلم الصحيح الذي تعرف به ربها ونشأتها ومصيرها وغاية وجودها ورسالة حياتها وسبيل نجاتها ونجاحها ورشدها وفلاحها. وفي أشد ما تكون حاجة إلى نور الإيمان والتوحيد ليخرجها من ظلمات عبادة الأوثان سواء كانت من الحجر أم الشجر أم البشر ويحرر إنسانها من استبداد واستبعاد أخيه الإنسان له وطغيانه عليه واستغلاله له ويعيده إلى عبادة الله وحده. وكانت في أشد ما تكون حاجة إلى نور الحق والعدل الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه ليخرجها من ظلمات الباطل والظلم الذي أفسد عليها حياتها وأغرقها في مستنقع نتن من الفساد والظلم والتظالم. فكان ميلاد الرسول، صلى الله عليه وسلم، ميلاد لنور العلم الصحيح والإيمان واليقين الذي يبدد ظلمات الجهل والجاهلية ونور التوحيد والإيمان الذي يبدد الشرك والوثنية وميلاد للحق والعدل والإحسان الذي يبدد ظلمات الباطل والظلم والطغيان. ولقد أشرق هذا النور وأضاء مشارق الأرض ومغاربها بفضل الله وبرحمته ثم بدعوة وجهاد رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام رضي الله عنهم. ومما لاشك فيه أن الحديث عن الرسول الكريم ورسالته ومآثر دعوته، صلى الله عليه وسلم، شيق وجميل والمسلمون وغيرهم في أشد حاجة إليه في زمننا هذا ليعرف المسلمون الكثير من الحقائق عن الرسول ورسالته التي غابت عن وعيهم والمفترض أنهم هم أهلها والنموذج المشهود الذي يمثلها وحملة لوائها ليراجعوا أنفسهم وينهضوا لإصلاح أوضاعهم وأحوالهم حتى يكونوا على المستوى المطلوب لأمة خاتم الأنبياء والمرسلين، وحتى يعرف غير المسلمين حقيقة الرسول الكريم ورسالته، صلى الله عليه وسلم، ويقدروا قدرها ويأخذوا على أيدي سفائهم الذين يتطاولون عليه صلى الله وسلم وعلى رسالته. تمر هذه الايام فيما يشبه الصمت ذكرى مولد الفتى العربي محمد ابن عبد الله في أسرة لم يكن ينتظره فيها من رصيد عدا اليتم والفقر، اللّهم غير شرف العائلة، بما لم يكن يرشحه في أفضل الحالات لأكثر من تاجر متوسط في أسواق العرب، أو سادن من سدنة البيت، ولا كانت مكة التي شهدت مولده - ولم يكن من بين سكانها من يفك الخط أكثر من بضعة نفر-. ما كان لأكبر مفكر استراتيجي أن يتخيل مجرد تخيل أو يحلم أن تكون منطلقا - عبر ذلك الفتى اليتيم - لتحولات ستغير اتجاه التاريخ وجملة المعادلات لا في جزيرة العرب وحسب فتتوحد تحت لوائه بعد أقل من ربع قرن من نبوته عليه السلام، بل جملة المعادلات السياسية والدينية والثقافية والعسكرية في منطقة تمتد من الصين الى جبال البريني صانعة نظاما دوليا على أنقاض النظام القديم مؤسسا على أساس تجديدي لتراث النبوات التوحيدي. فكان القوة الفاعلة في مجرى التاريخ لأكثر من عشرة قرون. ورغم أن هذا المنتظم الحضاري الجديد دخل في معادلات صراع واستيعاب وهضم ورفض وتفكيك وتركيب للعالم القديم، فانتصر هنا فتقدم واندحر وتراجع في منطقة أخرى إلا أنه كلما ظن خصومه أنهم قد همّشوه وأخرجوه أو كادوا من المعادلة الدولية سرعان ما تنبعث فيه روح التجدد والاصلاح احياء لروح الاجتهاد والجهاد فينتفض رادّا غزاته على أعقابهم كما حصل في إثر سقوط آخر خلافة اسلامية ووقوع بلاد الاسلام تحت سنابك الغزاة، أو كما حصل أيضا خلال الحرب الباردة حيث دفع الاسلام الى الهامش تستخدمه هذه القوة أو تلك لمصلحتها فيحارب حربها، حتى إذا انتصر المعسكر الغربي نصّب الاسلام عدوا ووجه اليه السهام، إلا أن ذلك لم يفعل إلا أن ملأ الاسلام غضبا وعبّأ قواه للدفاع عن كيانه شأن العقائد الكبرى ليس يضنيها أمر أشد من التهميش والاهمال، أما استهدافها فيحييها ويعبئ طاقاتها كما هو حال الاسلام اليوم إذ يعيش حالة امتداد وفوران تبلغ حد الغضب، وهو ما فرض على خصومه أن يقروا بفشل خططهم لتهميشه أو مسحه من الخريطة الكونية ولم يجدوا بدا -وهم يرون عمارته الفائضة على كل ساحات العمل الاجتماعي والسياسي وذواء المشاريع العلمانية التي صدروها الى عالم الاسلام- من الاعتراف به عاملا لا غناء عنه في التعامل مع عالم الاسلام وضمان مصالحهم فيه وضمان أمنهم واستتباب السلم. فتنافسوا في توجيه الدعوة إلى حركاته للحوار، ما أوقع الأنظمة التابعة في حالة رعب. إن مسيرة الاسلام لم تتوقف قط، هي بين طور فيضان وطور انكماش وتحفز، وهي اليوم في حالة امتداد لا يعيقه غير الاستبداد وفساد الحكام وعائق زيادة الغضب لدى ثلة من أبنائه عن الحد المعقول، ما وفر مزيدا من الفرص لأعداء الاسلام لتشويهه ومحاصرة أقلياته وتخويف الشعوب منه. ومع أن الاسلام ظل منذ مائتي سنة يتلقى حملات متلاحقة إلا أنه لم يستسلم قط وظل يقاوم ويحقق هنا أو هناك انجازات ليست بالقليلة: أ - إن معتنقيه ظلت أعدادهم في ازدياد ولأول مرة في التاريخ فاقوا عددا كل أتباع لأية ديانة أخرى. ولأول مرة في التاريخ ترتفع مآذنه في كل أرجاء المعمورة وتصبح لهم عوالم جديدة يتصاعد تأثيرهم فيها. حتى ترى هذه الايام في بريطانيا مثلا تنافسا بين السياسيين على اجتذاب الصوت المسلم فيقف ممثلوا وممثلات الاحزاب أمام المساجد يوم الجمعة يوزعون منشورات أحزابهم الانتخابية على المصلين. وفاق عدد المرشحين المسلمين المائة. النوعية الاسلامية أيضا في تحسن: وعيا أفضل وأرشد بالاسلام وبالعصر وتقنياته وعلومه ولغاته. إن فعالية شباب المقاومة لا تعود الى تفوق معنوي على عدوهم فحسب بل أيضا الى تفوق في استخدام التقنية الحديثة خلافا لجيل آبائهم وأجدادهم من المقاومين. إن نسبة المهندسين بينهم عالية. إن عدد اتباع الدين الجديد وهو جوهر حضارة الاسلام وروحها العميقة والممتدة لم يتراجع في أي ظرف بل ظل مواصلا تمدده أكان ذلك في ظل دولة تحتكم اليه أم كان في غيابها مكتسبا في كل جيل بل كل يوم أرضا جديدة. لقد تنافس في فتوحات الاسلام وتوسيع داره الفاتحون والتجار وربما يكون دور هؤلاء الاخيرين في تشكيل ما يسمى اليوم بدار الاسلام أهم من دور الأولين، وذلك في غياب مؤسسة رسمية للتبشير أو التحدث باسم السماء، فمسؤولية استمرار هذا الدين عهد بها صاحب الدعوة وهو يودع أمته موجها خطابه الى مائة ألف حاج، على مشارف مكة - بعد عشر سنوات فقط على خروجه منها مطاردا- الى أمته أفرادا وجماعات "فليبلغ الشاهد منكم الغائب" (صحيح مسلم). كل مسلم مسؤول أمام الله: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" (متفق عليه) مسؤول عن النهوض بأمانة الاسلام قياما بشرائعه في ذات نفسه وفي أسرته، تعلما وتعليما، ونشرها في محيطه بحسب وسعه، غير محقّر من نفسه ومن علمه حتى ولو لم يتجاوز غير آية، فيكون مسؤولا عنها عملا بها وتبليغا "بلّغوا عني ولو آية" (البخاري) و" لا تحقرنّ من المعروف شيئا" (رواه مسلم). وإذا كانت رسالة المسيح عليه السلام قد تحولت عبر التاريخ الى مؤسسة جسد المسيح على رأسها رجل دين ذو سلطة مطلقة، فإن رسالة الاسلام التوحيدية رفضت فكرة التجسيم أصلا، لا في رجل دين مهما عظم، ولا في دولة مهما صلحت، ولا في مؤسسة علماء، إذ لا عصمة - في منطق الدعوة التوحيدية- لشيء من ذلك، والخطأ وارد على الجميع، الامة فقط كل الامة هي الحاملة للامانة. وإجماعها هو الجدير بالثقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي عز وجل أربعا فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة سألت الله عز وجل أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها وسألت الله عز وجل أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها وسألت الله عز وجل أن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها (مسند أحمد). وهو ما يجعل المنظور الاسلامي العقدي أكثر المنظورات ملاءمة للفكرة الديمقراطية. قال تعالى: "وأمرهم شورى بينهم" (الشورى)، أي أن الشؤون العامة في الامة ما ينبغي أن ينفرد بالتقرير فيها أو يحتكرها أحد، ف " كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" (الترمذي)، والسبيل الأقوم لتقليص الأخطاء وإدراك الحقيقة هو المناقشات العامة والحوار توصلا للاجماع. ب - ومع أن المسلمين فقدوا وحدتهم السياسية ومزقت دار الاسلام الى عشرات من الدويلات الضعيفة فإن شعور الوحدة لدى أتباع هذا الدين قد استمرت قوية مخترقة عشرات اللغات التي يتحدثون بها والدول التي ينتمون اليها والطبقات والأعراق التي ينحدرون منها بأثر وحدة العقيدة والقبلة وجملة أركان الاسلام، حتى أنك ترى المهتدي الجديد ما أن تسري في كيانه معاني الايمان حتى يتحول جزء من الجسم الاسلامي "إنما المومنون أخوة" (الحجرات). "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" (رواه البخاري) و"مثل المومنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد" (رواه مسلم). ورغم غياب الكيان السياسي الاسلامي الجامع - عدا منظمة ضعيفة منظمة المؤتمر الاسلامي- فإن مشاعر الوحدة لا تزال قوية بين أتباع دين يقترب عددهم من المليار ونصف يمتدون في جميع أرجاء المعمور ويروادهم الامل في تعزيز هذه الوحدة الشعورية بأشكال أرقى سياسية واجتماعية. ولقد أسهمت ثورة الاتصال الحديثة وبالخصوص الفضائيات وما تنقله من دماء المومنين المسفوحة في تأجيج مشاعر الوحدة. وربما يمثل الحج أكبر مؤسسة للوحدة الى جانب بقية المحركات (العبادات) العاملة دون كلل على توثيق روابط المؤمن وتجديدها عموديا مع السماء مع ربه، وأفقيا مع إخوانه المؤمنين.