كان مثقف روماني قد تخصص في كتابة روائع التمجيد في حق تشاشيسكو، ديكتاتور رومانيا الأشهر عالمياً. قال عنه "وجودك في حد ذاته مفخرة للإنسان، فعندما تتحدث تصير الحصى والأحجار جبالاً، لقد قطعت في أسفارك في العالم ما لم يقطعه أحدٌ من قبلك، يكفي أن ننطق اسمك لكي ترتدي رومانيا الجائعة والفقيرة ملابسها." بعد مقتل تشاوشيسكو عاد المثقف نفسه ليقول: لو عاد هذا الديكتاتور من موته فإن الشعب الروماني سيقتله من جديد. ** قبل يومين هاتفني شخص أنيق، حدث إن التقيته مصادفة قبل عامين لأول مرة. كانت أيضاً هي المرة الأخيرة. مواصفاته: شاب أسمر، خجول، يعمل في برنامج الدكتوراه، عضو هيئة التدريس في جامعة عدن. تذكرت اسمه وملامحه فور أن عرّف بنفسه. بطيبة مواطن جنوبي حزين قال لي: لديك الوقت الكافي للدردشة؟ فاجأتني كلمة "دردشة" فنحن التقينا على هامشٍ ما قبل عامين، وكان لقاءً وحيداً. قلتُ له: بكل سرور. صمت لثوان. تحدث: "ألا تلاحظ أن كل شيء قد انتهى، أقصد الوحدة. لم نكن نحمل هذا القدر من الوحشة والذعر تجاه كل ما هو شمالي، بما في ذلك الباعة الطيبون الذين كانوا يبهجون مدينة عدن." طلبتُ منه أن يستمر في الحديث. قال: ماذا يعني لك 22 مايو؟ قلتُ له: فيه ولد أحد أصدقائي، وهذا أمر حاسم بالنسبة لمشاعري. منح لهجته قدراً من الصرامة: أتكلم بجدية. قلتُ: أنا أيضاً. سألني: على المستوى السياسي؟ قلتُ له: ماذا يعني لك أنت هذا اليوم؟ قال: ليس باباً إلى الفردوس. قلتُ له: وليس طريقاً إلى الجحيم. صمت ثوان. قال لي: أريد أن أسمع رأيك، فمنذ فترة طويلة لم أقرأ لك حول القضية الجنوبية. قلتُ له: يبدو أنك بالفعل راغبٌ في الدردشة. شوف يا سيدي ... وبدأنا ندردش. أشخاص ثلاثة استطاعوا حتى الآن تقديم تعريف ذكي لوحدة 22 مايو ونتائجها. اتسمت بعض تلك التعريفات بطابع كاريكاتوري، لكنه كان أيضاً دقيقاً وفاجعاً. يروي عبد الكريم الرازحي مذكراته مع الوحدة. يقول إنه ترك القرية إلى صنعاء بحثاً عن مصدر للعيش، في ثمانينات القرن الماضي. لكن شقيقه اختار عدن. اعتقل هو في صنعاء، واعتقل شقيقه في المنصورة في عدن. يروي الرازحي: في عام 1990 التقيت مع شقيقي في السجن، هناك أدركتُ أنهم قد وحدوا السجنين. الشخص الذي صاغ رؤية حزب الإصلاح للقضية الجنوبية اقترب أيضاً من التصور الكاريكاتوري الدقيق للرازحي. فبالنسبة لحزب الإصلاح كانت الوحدة محاولة متحمسة لدمج نظامين ديكتاتورين يستحيل دمجهما وإذابتهما بسبب طبيعة النظام الديكتاتوري وتعقيداته، وخشونة بنيته الداخلية. فهو نظام غير تمثيلي، يعتمد على شبكات ولاء معقدة، يملأ دائرته الضيقة بالموالين، والخارجية بالجواسيس. يصعب عليه التعامل المرن مع المتغيرات الكونية. ثم يسقط في النهاية بسبب تخلفه عن تحولات المجتمع والتاريخ. فمثلاً كان تشاوشيسكو، الديكتاتور الروماني، لا يزال يخطب في الجماهير ويعدهم بالمستقبل المبهر حتى ما قبل ساعتين من إعدامه. فقبل 45 عاماً من تلك اللحظة كان الشعب يهتف في المهرجانات: يعيش يعيش. في الساعات التي سبقت إعدامه مع زوجته "إيلينا" جمع الشعب كعادته. كانوا يمرون صامتين. لم ينطق منهم أحد كلمة "يعيش" هذه المرة، فاضطر حرس الديكتاتور لملأ الفضاء بمكبرات الصوات التي تقول: يعيش يعيش. لم تقدم رؤية الإصلاح مثل هذه الشروح، لكنها أشارت إليها بجمل كثيفة مفتوحة على التأويل. لا توجد معادلة سياسية يمكنها أن تتوقع نشوء نظام ديموقراطي حديث من حاصل دمج نظامين ديكتاتورين. كما أن عملية دمج نظامين ديكتاتوريين يعتمدان في الأساس على الشك والجاسوسية وإثارة الخوف لا يمكن أن تنتج وضعاً سياسياً مستقراً وقابلاً للبقاء. حاولت رؤية حزب الإصلاح أن تقدم إجابة هندسية شديدة الذكاء لحرب 1994. تقول الرؤية ن مثل هذه الحرب كانت متوقعة، إذن، في أي لحظة، بصرف النظر عن كل التفاصيل الدقيقة التي سبقتها. لقد كانت حرباً بين سجّانين، تقول رؤية الإصلاح، بينما كانت الوحدة دمجاً لسجنين، يقول الرازحي. هناك مستوى أعلى من التدقيق توصل إليه الكاتب المعروف طاهر شمسان في رؤيته حول القضية الجنوبية "بين الدراية والرواية". يقول طاهر شمسان: "الحرب التي أنتجت القضية الجنوبية لم تكن بين جهتين في الجغرافيا وإنما بين إتجاهين في السياسة. فالذين كسبوا الحرب وجنوا ثمارها هم من الشمال والجنوب. والذين خسروها هم أيضا من الشمال والجنوب. أما المهزوم الأول والأكبر فيها فهو الشعب اليمني بشقيه الكاره والخائف" عند طاهر شمسان، أيضاً، من الممكن النظر للوحدة على مستويين: المستوى الجماهيري، أي الاجتماعي، والمستوى السياسي. التفصيلات التي يمكن أن تقدم على هذه الرؤية بمقدورها الآن أن تقول إن الوحدة كوضع سياسي، والوحدة كحالة عاطفية جماهيرية، تعاني الآن كثيراً. المتغير الأكثر جدة الآن هو عودة اللاعبين القدامى مرة أخرى للواجهة، بينما تحظى القضية الجنوبية الآن بأعلى قدر من الانتباه والتعاطف الخارجي والداخلي مقارنة بطور الذروة الذي عاشه الجنوب تحت سطوة المنتصرين في الحرب: الشماليين والجنوبيين. يعمل الإعلام كقارع طبول، بينما يتحدث حديثو السن في الجنوب برومانسية باهتة عن عصر ذهبي لم يدون ذهبَه أحد. وبدلاً عن أن يظهر المثقفون الجنوبيون إلى السطح ليبيعوا المستقبل باستخدام لغة تنتمي إلى الزمن الجديد فقد عاد الساسة القدامى ليبيعوا الماضي. لقد غرقوا في التاريخ حتى أبعد مجاهليه، لدرجة اتخاذهم موقفاً عدوانياً من الشاعر الجاهلي عبد يغوث الحارثي، واتهامه بتزييف التاريخ والجغرافيا عندما يقول "أبا كربٍ والأيهمين كليهما، وقيساً بأعلى حضرموت اليمانيا". في زمن التقانة الفائقة يعيش خطاب القضية الجنوبية على المستوى السياسي قَدَامة بائدة مثيرة للقلق. يخرج الشباب إلى الميادين بينما يستخدمهم الساسة كجِمال ويحملونهم حقائبهم. قال لي الصديق الجنوبي: كانت الدولة في الجنوب هي الأم والأب. قلتُ: اسمح لي أن اختلف معك قليلاً، وأقتبس تعريف الكاتب أسامة غريب عن مصر لألصقه بالدولة التي كانت في الشمال والجنوب: "مش أمي، دي مرة أبويا". السيدة القاسية المتجهمة التي توفر بعض الخبز والحليب وأقراص الأسبرين عند الحاجة، لكنها لا تكترث للمستقبل. تلك الدولة التي تحاول أن تمنع عنك الموت، لكنها لا توفر لك الحياة الجيدة. يمجد خطاب قادتها الجماهير لكنه لا يتردد لحظة واحدة عندما يقرر إشراكهم في حروب أهلية مدمرة. مرة أخرى كان النظامان اللذان وقعا الاتفاق السياسي دكتاتوريين، خلقا جمهوريتي خوف في الشمال والجنوب. فتحت أبواب المدارس في الجنوب أكثر من الشمال. لقد فعل النظام الجنوبي ذلك حقّاً، وعندما أتذكر ذلك تقفز إلى رأسي الفكرة التي دونها الراحل الطيب صالح في مواسم الهجرة نحو الشمال: لقد فتحوا لنا المدارس ليعلمونا كيف نقول لهم نعم بالانجليزي. مارس النظامان السياسة والأمن بأعلى مستويات الانحطاط الحضاري والأخلاقي. وكان الإنسان، بالنسبة للنظامين، مجرّد كلفة جانبية يتحملانها مكرهين. أخرج نظام صالح الشمال من التاريخ عبر تكتيكات إنسان الغاب، إنسان ما قبل جان لوك وفولتير وروسّو ومونتسكيو: على مستوى صراع القبائل، والاغتيالات، وتقديم الرشى، والاختراقات الأمنية وبيع الموقف السياسي الخارجي، وتحويل اليمن إلى مسرح يتبادل فيه هو والجماهير دور الممثل والمشاهد، بحسب اللحظة الزمنية. في الجنوب تمركس قيادات النظام بوصفهم عرباً، بتعبير الكاتب عمر عبد العزيز. لقد قضت النسخة العربية من الماركسية على الفضائل القليلة للاستعمار البريطاني. أما ضحايا الحروب التي خاضها الاحتلال "الجنوبي" للجنوب في خلال ثلث قرن من الزمن فقد فاقت بكثير ضحايا الاحتلال البريطاني للجنوب في قرن وثلث القرن. مع مغادرة آخر جندي بريطاني لجنوب اليمن برزت القضية الجنوبية إلى الوجود. كانت دائماً قضية أخلاقية حضارية مستقبلية، وكان في مقدمتها دائماً أناس لا علاقة لهم بالمستقبل سوى في مراحل قصيرة للغاية. في اللحظة الراهنة توجد سلسلة غير منتهية من تعريفات القضية الجنوبية لدى الجنوبيين. كما يبرز في كل تعريف مستويان من الخطاب: الجماهيري، والسياسي. تتحدث الجماهير عن القضية الجنوبية بوصفها موضوعاً، لكن الساسة الجنوبيين يقاتلون ضد بعضهم عندما يتحدثون عنها. وإذا كان ساسة الشطرين قد دمروا "الوحدة" كدالة وموضوع جماهيري لطالما خطف الألباب في الشطرين فإن الساسة الجنوبيين يعودون مرة أخرى ليدمروا فكرة القضية الجنوبية أيضاً، بنفس أدوات الماضي. قلتُ لصديقي الجنوبي: دعني أقل لك إنه لا علاقة لي ولك بهذه الحكاية المعقدّة. كل ما أستطيع أن أؤكده الآن هو أن الساسة في الشمال والجنوب لم يكونوا فقط أغبياء، بل كانوا لصوصاً وقتلة. وإذا كنا في صنعاء قد استطعنا أن نكنس بعض قاذورات الماضي، بتعبير ياسين سعيد نعمان، فإن شباب الجنوب ومثقفيه لم "يسحبوا السيفون" حتى الآن. أما أنا، على المستوى الشخصي، فلم أصفق ل 22 مايو، ولا ل 7 يوليو. لطالما ملأني هذان اليومان بالشك والقلق. بعد ذلك يمكن أن نتحدث كثيراً، وندردش بكلام لا ينتهي