عاش د. عبد الوهاب المسيري فترتين خصبتين من حياته في قلب العالم الغربي؛ وفي أمريكا الأنموذج الأول فيه؛ وخرج من تجربته بمجموعة مهمة من التأملات والتحليلات الدقيقة حول أنماط الحياة: الفردية والجماعية، وهي تأملات تستحق أن نقرأها ونفيد منها لأنها دروس باحث عن الحقيقة لم يمنعه انتماؤه لمحيط حضاري مخالف أن يذكر الصواب الموجود ويدعو للأخذ به، ولم تهزمه حالة التخلف التي جاء منها لتحوله إلى إمعة يذوب في الخطأ، وينجرف مع تيار المهزومين نفسيا وحضاريا. ولأن التأملات والدروس المسيرية كثيرة، ويصعب استعراضها كلها؛ فقد اخترنا بعضا منها نجد أنها من الفائدة والعبرة ما نظن أنه يناسب مجتمعنا وتجربتنا وحاجياتنا. من المادية إلى الإنسانية.. تتلخص تجربة د. المسيري مع الغرب في دفعه للعودة مقتنعا من المادية إلى الإنسانية.. وهو قرار ليس بالسهل؛ ليس فقط لأن المسيري جاء من محيط متخلف فقير ولكن لأنه كان مؤمنا بالماركسية المادية، وسبق له أن انضم لحركة شيوعية مصرية، ونشط فيها، وترقى في مراكزها التنظيمية حتى صار عضوا قياديا في إحدى مناطقها بالإسكندرية. ويسجل المسيري بعضا من دروس وملامح تلك المرحلة التي كان فيها من نشطاء الحركة الشيوعية المتحمسين؛ فيذكر مثلا كيف نهر خطيبته عندما رآها تتصدق على شحات، لأن المفاهيم الماركسية التقليدية كانت ترفض مثل هذه الممارسة التعاطفية الفردية؛ لأنها لا تجعل الفقير يشعر بفقره فتؤجل ثورته على الظلم! ومع تلك الحماسة الثورية التي كان عليها إلا أنه واجه عددا من المواقف والتجارب التي جعلته يقرر الانسحاب من عضوية التنظيم الشيوعي والاكتفاء بعلاقة صداقة.. وكانت أولى هذه المواقف التي جعلت أنموذجه المادي يهتز كإطار رؤيوي ما حدث له عندما ذهب لمسئوله الحزبي يستنصح في أمر زواجه من الفتاة التي أحبها، وبدوره أخبره المسئول الحزبي إنها لا تصلح له لأنها برجوازية والزواج من أمثالها يسبب مشكلات كثيرة! و لأنه لم يقتنع بتبريرات مسئوله الحزبي المبنية على أساس أيديولوجي عقلي (طبقي) لمسائل الحب والزواج؛ فقد قرر طلب النصيحة من والدته التي قدمت له معيارا إنسانيا بسيطا يستخدمه لتحديد موقفه من الزواج من الفتاة التي أحبها، وكان المعيار في غاية الإنسانية إذ قالت له: (هل يشعر قلبك بالفرح حينما تراها؟).. ويعترف أنه حتى لم يجب عن سؤال أمه، وتزوج ممن يرغب قلبه فيها.. لكن كانت هزة لرؤيته المادية كشيوعي نشيط! على أن أسوأ ما لاحظه المسيري خلال تجربته القصيرة ضمن التنظيم الشيوعي (وجعله يقرر تقديم استقالته من التنظيم الشيوعي) هو ما سماه بتفشي النزعة النرجسية المتطرفة، وتناقض السلوك الشخصي مع أي نوع من أنواع المثاليات الدينية والإنسانية، والتي كانت تتجسد في مقدار الحريات الأخلاقية الكاملة التي يسمحون بها لأنفسهم، وجعل المسيري يصفهم بأنهم تجسيد لنزعة الداروينية (نسبة لداروين صاحب نظرية البقاء للأصلح والأقدر على التكيف) والنيتشوية (نسبة لنيتشة صاحب نظرية: تأكيد إرادة القوي، والصراع، ورفض المحبة بحسبانها مؤامرة الضعفاء على الأقوياء) وليس حتى للنظرية الماركسية ولا بأي منظومة أخلاقية.. وقد اكتشف المسيري أن ماركسية هؤلاء لم تكن تنبع من إيمان بضرورة إقامة العدل في الأرض ولكن من باب الحقد الطبقي الأعمى,, وأن هؤلاء كانوا ماركسيين بحكم وضعهم الطبقي فقط، وأنه لو سنحت الفرصة لهم للفرار من طبقتهم والانضمام للطبقات المستغلة الظالمة لفعلوا دون تردد، وطلقوا ماركسيتهم طلاقا بائنا! يورد المسيري في سياق تجربته الماركسية حكايتين لهما مدلول، ذكر واحدا منها وأعرض عن الآخر رغم استحقاقه شيئا من تأملاته التي لا تنتهي.. وهذه الأخيرة وقعت عندما قدمه الحزب لطبيب أسنان، وطلبوا منه تسجيل شهادته باعتباره من مؤسسي الحركة الشيوعية في مصر.. وقد فوجيء المسيري بالرجل يعترف له بأنه كان في مقتبل حياته يعمل مهرجا في سيرك مصري، وحدث أن كان السيرك في زيارة لموسكو أثناء الثورة الشيوعية عام 1919، وهناك جنده الشيوعيون، وألحقوه بإحدى المدارس الحزبية ليعود لتأسيس الحزب الشيوعي المصري! أما الحادثة لتي لم تفلت من تأملاته فقد وقعت لإحدى طالباته بعد استقالته من الحزب، فقد اعتقلت الطالبة بتهمة الشيوعية، وكانت متزوجة من رفيق شيوعي مثلها، واكتشف المسيري أن الزوج بدأ يغازل أعز صديقات زوجته المعتقلة، فنهره وطلب منه على الأقل أن ينتظر حتى خروج زوجته المناضلة من السجن.. لكن الزوج رفض النصيحة وتزوج من صديقة زوجته بطريقة وصفها بأنها داروينية لا علاقة لها باحترام الإنسان.. وفيما بعد خرجت الزوجة من السجن وجاءت إلى المسيري تشكو إليه زوجها، ولأن الطالبة المفجوعة كانت دائما ما تسخر من نزعة المسيري الأخلاقية والإنسانية (غير العلمية) فقد قال لها مذكرا أو ساخرا: (لقد خدمت المرحلة السابقة، أما المرحلة اللاحقة فهي تطلب زوجة جديدة!)، ويفسر المسيري موقفه بأنه لم يكن يقصد جرح مشاعرها لكنه أراد أن يبين لها أن المنطق الدارويني النيتشوي يؤدي إلى مثل هذه المواقف غير الإنسانية، وأن المنطق الذي تبنته في الماضي لا يتعارض مع ما حدث لها! ويختم المسيري تأملاته في تجربته الماركسية بحكاية ظريفة تكررت كثيرا في عالمنا العربي المسلم؛ وهي حكاية أحد رفاقه الشيوعيين الفلسطينيين مع مجموعة من الشيوعيين التروتسكيين المتطرفين الذين حضروا إلى مركز تدريب للفدائيين، وكعادة المتطرفين بدئوا يمتحنون صدق إطاره النظري الشيوعي، ومنطلقاته الفلسفية، ونقط ارتكازه العقلية، فأراد الرجل تعليمهم درسا، ودعاهم للمشاركة في عملية عسكرية اليوم التالي، وأركبهم في سيارات إلى منطقة جبلية ثم أوهمهم بوقوع هجوم عليهم، وبدا الرصاص ينهمر عليهم بتدبير مسبق فلم يصبهم سوء.. لكن التروتسكيين تصرفوا كما يتصرف البشر فاختبأوا تحت السيارات، وكانت المفاجأة أن كل واحد منم بدا يتلو أدعية دينية، ويطلب العون من الله!! في عرين المادية.. في أمريكا تبدت للمسيري الحياة المادية بأسوأ صورها وأكثرها ظلما للإنسان وإنسانيته: سياسيا، واجتماعيا، واقتصاديا ومعرفيا.. وقد وصف تجربة وصوله تلك إلى الفردوس الأرضي كما يوصف فقال: [حين وصلت إلى الولاياتالمتحدة ؛بلد الحرية والتقدم عام 1963؛ وجدت نفسي كارها لما حولي، إذ أحسست أنني وصلت إلى سوق كبير. كنت أمقت الجرائد اليومية المحلية التي تنشر أخبار العالم في بضع كلمات، وتضم عشرات الصفحات التي تحتوي على إعلانات وعلى كوبونات؛ إن قطعها القارئ فإنه يحصل على تخفيض خمسة سنتات في هذه السلعة وعشرة سنتات في تلك. وبرغم حبي لكثير من الأمريكيين (فهو شعب طيب نشيط متفتح الذهن)، فإنني وجدت أن النظام المهيمن يجهض إنسانيتهم، ويخاطب أحط ما في البشر.. وحينما عدت إلى مصر وبدأت أفكاري تتحول عن الماركسية قلت لنفسي: لا بد أن موقفي المتحيز ضد الولاياتالمتحدة كان متأثرا إلى حد ما برؤيتي الماركسية! ولذا حين عدت مرة أخرى عام1975 قررت أن أحاول النظر للمجتمع الأمريكي بعقل أكثر تفتحا.. ولكن هيهات؛ إذ كنت كلما لاحظت ما حولي ازددت يقينا بخطورة النموذج المادي المهيمن على الولاياتالمتحدة لا على الأمريكيين كبشر وحسب، وإنما كذلك على الجنس البشري بأسره..] الحق أن هذه الكلمات سبق أن قال معناها الشهيد سيد قطب في مقالاته التي وضع فيها خلاصة تأملاته في المجتمع الأمريكي عندما عاش فيه فترة دراسية في نهاية الأربعينيات، ونشرها د. صلاح الخالدي في كتاب خاص، ويمكن ملاحظة تشابه النتائج التي توصل إليها المفكران المرموقان في العديد من القضايا؛ مع فارق أن المسيري كانت له فسحة من العمر؛ بالإضافة إلى أن عدم انشغاله بالعمل السياسي الوطني أتاح له فرصا كبيرة للكتابة والتأمل بلا حدود.. بينما لم يحظ قطب بعد عودته من أمريكا بسوى سنوات خمس من الحرية قبل أن يلقى به في السجن ثم يقاد إلى ساحة الإعدام.. لكن ما كتبه كان استشرافا عبقريا يجعله رائدا في التحذير من خطورة الأنموذج المادي الأمريكي على البشرية، وخطورته على النفس والعقل وإنسانية الإنسان. حدد المسيري في تأملاته الأسس الفلسفية التي أسست للمجتمع المادي الذي يتحول الإنسان إلى مجرد (شيء) تتلاعب أو تتحكم به مقولات مثل: - الغاية تبرر الوسيلة (مكيافيللي). - الإنسان ذئب لأخيه الإنسان (هوبز) - الصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح وللأقدر على التكيف (داروين). - تأكيد إرادة القوي، والصراع، ورفض المحبة بحسبانها مؤامرة الضعفاء على الأقوياء (نيتشة). - الحكم على العقل لا من خلال أي منظور أخلاقي مسبق ولكن من خلال نتائجه النفعية. (وليام جيمس). ويقرر المسيري أن كل هذه الفلسفات مجرد تنويعات مختلفة عن مبدأ (العلمانية الشاملة)، والتي عرفها بأنها: [ فصل الدين عن الدولة عن بعض جوانب الحياة العامة، وفصل القيم والغايات الدينية والأخلاقية والإنسانية عن الدولة وعن مرجعيتها النهائية، وعن حياة الإنسان العامة والخاصة، وهي تطبيق القانون الطبيعي المادي على كل مناحي الحياة، وتصفية أي ثنائية بحيث تتم تسوية كل الظواهر الإنسانية بالظواهر الطبيعية (التي تتعامل مع الإنسان بدون خصوصية وكأنه مثل أي مخلوق آخر..) والأسوأ أنها بدون مرجعية قيمية وغاية نبيلة لا في الاقتصاد ولا في الرياضة أو الفن.. إلخ.. وهذا الذي يسهل عملية السيطرة والتحكم في الإنسان والطبيعة تحكما كاملا من خلال المقولات السابق ذكرها. ربما كان مناسبا اختتام حلقة هذا الأسبوع بإحدى قصص هذا المجتمع المادي كما عرفها المسيري، والذي حصل أنه كان قد أسس منتدى فكريا ماركسيا (المنتدى الاشتراكي) في المرحلة الأولى من حياته في أمريكا في الستينيات، وعندما عاد في السبعينيات سأل عما حدث للمنتدى ولرواده فكانت الإجابة على النحو التالي (الأسماء مموهة لا علاقة لها بالأسماء الحقيقية): 1-ديفيد جرينبرج: كان يتناول حبوب مهدئة كثيرا فحاول أن يقتل زوجته ثم انتحرّ. 2-ريتشارد فريدمان: تروتسكي متطرف صار متخصصا في التحليل النفسي، وطور جهازا يسمر علب الأورجون لاصطياد الأشعة الكونية المعنية بالطاقة الشمسية لمساعدة الفرد على (بلوغ اللذة بمفرده، وقطع كل علاقاته بماضيه ورفاق سلاحه!) 3- جون سواتسكي بدأ في تهريب المخدرات بين المكسيك وأمريكا، وقبض عليه وسجن! 4- سارة ستاينبرج: زوجة طبيب أسنان كان يحارب في فيتنام، وكانت تكره حياتها البرجوازية معه، فطلقت وأحبت شابا شاذا من النوع السادي مازوخي لم يبادلها الحب بل كان يستغلها.. طاردته دون فائدة ثم صارت عضوا في منظمة يسارية إرهابية! 5-داني:تهود تماما، وأطلق لحيته، وانغمس في العبادة. طلق زوجته المسيحية وتزوج يهودية برجوازية.. وكان يعبر عن كراهيته للمسيح بتعليق صورته في دورة المياه! 6- فريدريك ميللر: تحول إلى مفكر يميني جديد يرى للدين دورا في المجتمع! 7- مجموعة أخرى حصلوا على الدكتوراه، وانتظموا في السلك الجامعي وأصبحوا جنودا مستأنسين من المهنيين المنمطين المدجنين لتحقيق الحلم الأمريكي: (بيت-زوجة-سيارة- كلب.. إلخ).