في الثالث من يوليو القادم بإذن الله تحل الذكرى الخامسة لوفاة الدكتور عبد الوهاب المسيري المفكر والعلامة الموسوعي. ومن المفيد أن تكون لنا وقفات في هذه الذكرى نعيش فيها مع سيرة أحد نابغي الأمة الذين قدموا لها عصارة عمرهم وعقولهم وأفئدتهم دون منّ ولا أذى، ولم يرحل عن دنيا الفناء حتى كان قد أسهم في تأسيس حركة «كفاية» المصرية، وصار منسقاً عاماً لها، وهي التي كان لها دور تاريخي في التمهيد لتفجير الثورة المصرية ضد المخلوع حسني مبارك! وضع د. عبد الوهاب المسيري (رحمه الله) عصارة تجربة حياته الفكرية والسياسية في أحد أكثر كتب السيرة الذاتية أهمية في العقود الأخيرة، وهو فضّل أن تكون سيرة لمسيرته الفكرية والتطورات التي حدثت فيها على أن تكون مجرد سيرة تقليدية لحياة إنسان كما تعود كثيرون أن يفعلوا، فكان النتاج كتاباً زاخراً بالتجارب والتحليلات والمقارنات والأفكار والتأملات المدهشة بعنوان: «رحلتي الفكرية: سيرة غير ذاتية وغير موضوعية».
وفي هذا الكتاب المهم يرسم المسيري رحلته الفكرية من خلال استعراض وتحليل دقيق للأفكار، والعادات والتقاليد، والنظريات التي كان لها تأثير في حياته كإنسان وباحث، ومفكر مهموم بالبحث عن الحق والعدل. ولأن الرجل عرف الغرب، وخاصة أمريكا، فقد قدم من خلال المقارنة بين الشرق العربي الإسلامي والغرب الرأسمالي المسيحي مقارنات عميقة الدلالات، واستخلص منها نتائج مهمة سواء على المستوى الفردي الإنساني أو المستوى الجمعي. ونحن في هذه الذكرى سوف نعيش مع جوانب من سيرة المسيري الفكرية التي هي في الحقيقة سيرة مصغرة للإنسان العربي المسلم في عصر تصادمت فيه العقول والنظريات والأفكار كما لم تتصادم السيوف.. وفي الخلاصة قدم لنا المسيري في كتابه الضخم سيرة دقيقة لرحلته الفكرية انعكاساً لجانب من سيرة المجتمع العربي المسلم والتطورات التي لحقته بفعل الزمن وبفعل التأثر بالآخرين.
عاش المسيري في الولاياتالمتحدة (قلب الغرب الرأسمالي المسيحي) فترتين خصبتين من حياته (الأولى درس فيها الماجستير والدكتوراه بين عامي: 1963-1969، والثانية بين عامي 1975-1979 عندما عين مستشاراً لوفد الجامعة العربية في الأممالمتحدة). وقد أنتجت تلك التجربة دروساً وتأملات عميقة وضعها في كتابه المذكور بموضوعية العالم الباحث عن الحقيقة والذي لا يغفل في الوقت نفسه عن قصور مجتمعه وبيئته، فقد أتاحت له تجربة العيش العميقة في الغرب مصدراً ثرياً لدراسة عميقة للأفكار والنظريات مثل العلمانية، والعولمة، والحداثة، والماركسية.. إلخ النظريات التي عاصرها واعتنق بعضها فترة من الزمن قبل أن يعود إلى الإيمان بالإسلام والاعتزاز به دون أن ينسيه ذلك محاولة معالجة أخطاء المسلمين وقصورهم وتخلفهم المادي استلهاماً لجوانب القوة والإبداع في المجتمع الغربي.
المجتمع الصغير نشأ المسيري في مجتمع تقليدي له ميزات وتقاليد وعادات إيجابية قبل أن تصل إليه التأثيرات السلبية للعادات الوافدة بسبب التطورات الاقتصادية والمعيشية والسلوكية.. وقد قدم المسيري نماذج عدة من تلك السلوكيات والعادات التقليدية الإيجابية التي جرفتها أو غلبتها سلوكيات مستجدة بفعل التأثر بالتطورات التي لحقت بالمجتمعات العربية.. ومن ذلك مثلاً: - مبدأ إعادة التدوير أي عدم الإسراف والتبذير.. فالطعام لا يلقى في القمامة إلا القليل منه.. وأوراق الجرائد، وعلب الأكل، وقشر البطيخ.. وكل شيء من هذا القبيل ترسخ في النفوس أنها نعمة من عند الله لا يجوز إهمالها والعبث بها.. فمثلاً طريقة أكل الدجاج بالشوكة والسكين تفوّت كثيراً من اللحم على عكس طريقة الأكل باليد. وفي حفل زفاف ابنته أصرّ المسيري على مسؤولي الفندق أن يأخذ معه الطعام الزائد لتوزيعه على فقراء منطقته كما تعلم في بيئته التقليدي؛ بدلاً من رميه في القمامة كما قال مسؤول الفندق، ثم علم من كبير الجرسونات أن الطعام الزائد لا يلقى في القمامة كما قيل له، ولكن العمال يأخذون البقايا ليوزعوها على أسرهم، وعندها اتفق معهم على تقاسم البقايا بين الطرفين.
مثال ثانٍ يورده المسيري حول الإسراف في استخدام الملابس والتخلص منها واستبدالها بالجديد كما كان يفعل أفراد أسرته، بينما ظل هو يحافظ على ملابسه حتى تبلى ثم يتم التصدق بها. ويروي هنا طرفة أن بعض المحتاجين الذين تعودوا أخذ الملابس القديمة من أسرته كانوا يقولون لزوجته وهي تعطيهم إياها: «بلاش والنبي حاجات البيه» لأنهم لا ينتفعون بها مطلقاً! (رغم سلامة الفكرة ابتداء، إلا أن المسيري وقع هنا في الإفراط مقابل التفريط، إلا إذا قلنا إن أولئك المحتاجين بالغوا في رفضهم بعد أن تعودوا على الحصول على أشياء ما تزال جيدة غير مستهلكة، أي أنهم صاروا «بوّاقين» بالتعبير العامي!).
استخدام علب الأكل وقشر البطيخ وغيره في انتاج أشياء أخرى معروفة في المجتمعات التقليدية التي تصنع منها أنواعاً من المربى أو أوانٍ مطبخية، أو تستفيد من بقايا الطعام لإطعام الطيور التي تربى في المنازل، وحتى الورق المستخدم للكتابة (الدشت) كان يتم الاستفادة منه بالكتابة على ظهره (هذه بالذات عادة عندي منذ عملي في الصحافة فقد لاحظت أن كميات كبيرة من الأوراق تلقى بعد استخراجها من جهاز الكمبيوتر، فقررت إعادة استخدامها، وما زلت حتى الآن أفعل الشيء نفسه، وأجمع ما أستطيع منها لإعادة تدويرها بدلاً من رميها).
من التغييرات الاجتماعية التي رصدها المسيري الموقف من دور المرأة وعملها في البيت؛ ففي المعايير التقليدية يكون له مكانة اجتماعية مقدرة ومعترف بها، وتنسب إليها نجاحات أبنائها.. أما مع التطورات الاجتماعية المستجدة فقد صار هذا الدور الجوهري بلا قيمة اجتماعية، ويعبر عنه بأنه: لا شيء.. أو كما تصف المرأة التي لا تعمل دورها في البيت باستهانة: قاعدة في البيت!
••• يوافق المسيري على أن المجتمع العربي التقليدي يحظى بوجود إحساس بالمسؤولية الاجتماعية تجاه الآخرين (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، على العكس من المجتمع في الغرب الذي تغلب فيه الفردية المطلقة بل التطاحن الوحشي.. فالشاب في سن 16 عاماً عليه أن يجد منزلاً مستقلاً لأن عائلته ترفض استمرار الإنفاق عليه، وفي سن الستين عليه أن يجد ملجأ للعجزة لأن أبناءه لن يسألوا عنه إلا مرة واحدة في العام! ومع ذلك يرصد المسيري سلبيات المجتمع التقليدي أو جوانبه المظلمة وفق تعبيره؛ فالفرد يرفض القوانين العامة خارج ولاءات القبيلة أو الأسرة والعشيرة، والقيم الأخلاقية الراسخة، فصارت بذلك الحياة العامة عنده غير مقدسة مثل: تناقض سلوك بعض المصلين الذين يلتزمون النظام والانضباط في المسجد رغم عدم وجود سلطة خارجية قاهرة ثم سرعان ما يعودون إلى الفوضى حال مغادرتهم للمسجد! ومثل ذلك الاهتمام بنظافة المنزل مقابل إهمال نظافة الشارع بل سلم العمارة التي يسكن فيها المعنيون!
هذا التناقض المتفاقم بين السلوك الخاص والسلوك العام يعيده المسيري إلى الفساد في كثير من الخبة الحاكمة.. وكأنه يقصد هنا أن هؤلاء النخبة كلما كانوا ملتزمين بالسلوك العام أجبروا العامة على تقليدهم، وكانوا قدوة لهم.. وهو تحليل سليم فالفساد أو الخلل في المجتمع يكون قاتلاً متى صدر عن النخبة (أو «الملأ» في المصطلح القرآني).. وفي السنن الإلهية «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرْنا –وفي قراءة: أمّرنا- مترفيها ففسدوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً..».
التراحمية.. والتعاقدية يحدد المسيري فرقاً جوهرياً بين المجتمع العربي التقليدي، والمجتمع الأمريكي الحداثي (كأنموذج للغرب).. فالأول تسود فيه علاقة التراحم/ الترابط أي أن العلاقات فيه لا تقام فقط على أساس المنفعة واللذة، فهناك حسابات أخرى غير مادية وغير أنانية يمكن ملاحظتها في العلاقات الودية بين أرباب العمل والعمال في المجتمع التقليدي، بينما تسود المجتمع الآخر علاقة التعاقد/ النفعية، ويروي حكاية صديق له مع امرأة طلبت من أمها أن ترعى طفلتها أثناء خروجها مع الصديق، وعند عودتها فوجئ الرجل بالمرأة تكتب شيكاً لأمها مقابل رعايتها لحفيدتها! ومن مظاهر هذه الروح التعاقدية أنه لو صدم أب ابنه بسيارته فشركة التأمين لن تصرف له قيمة التأمين إلا إذا رفع الابن دعوى قضائية على أبيه!
وبالطبع في كل حالة إيجابيات وسلبيات.. فالتراحمية في المجتمع قد تؤدي إلى تفويت حقوق الآخرين مثلما يحدث عندما يرتكب أحدهم خطأ ما في حق آخر كاصطدام سيارة خاصة بحافلة نقل عام.. فكثير ما يهرع الآخرون لتصفية الموقف، والطلب من المتضرر أن يعفو ويصفح عن «الراجل الغلبان المسكين الشاقي على كومة عيال!» ولو كان في الأمر ضياع لحقوق المتضرر.. ومثل ذلك ما يشيع من طلب المسامحة عن التقصير في أداء الواجبات وإن أدت إلى خسائر لطرف آخر؛ بحجة أنه مسكين وجاءته ظروف ما! وفي الحالة التعاقدية فهناك إيجابيات منها: ضمان حقوق الفرد من الضياع في خضم العواطف التراحمية، وتحديد الحقوق والواجبات بدقة على كل طرف، ومن ثم تقل التوترات بين الأفراد لأن كل واحد يعف ما له وما عليه..(مثلاً: يرفض أهل المهن عادة تحديد أجر العمل المطلوب منهم بحجة أننا لن نختلف ثم تبدأ المشاكل والتوترات عندما يحين وقت الحساب، وفي المقابل فإن من مميزات الحالة التعاقدية أن طرفي أي عمل يعرف كل منهما كم يحتاج العمل من وقت وكم يكلف ذلك قبل البدء فيه).
ظرائف مسيرية.. - يروي د. المسيري إنه عندما بحث عن أصل عائلته؛ قيل له إنهم من الأشراف، وكان أحد أفراد العائلة يحتفظ بشجرة العائلة التي تبدأ فروعها من دمنهور المصرية في القرن العشرين، وتنتهي عند مكة في أيام البعثة المحمدية. وعلّق المسيري على ذلك بأن قريبه لو زاد في البحث قليلاً لأوصلها إلى آدم عليه السلام، وأدرك أننا سواسية كأسنان المشط!
- في عام 1969 وبعد 17 عاماً على ثورة يوليو وقبل عام من وفاة قائدها؛ فوجيء المسيري أثناء حضوره إحدى لجان الاتحاد الاشتراكي العربي في إحدى قرى دمنهور أن الهدف من اللقاء هو عقد تحالف بين الوفديين والسعديين لخوض انتخابات الاتحاد الاشتراكي! وقد وجد في هذه الحادثة دليلاً على قوة المجتمع التقليدي الذي يحمي أفراده من التقاليع الجديدة وهجمة الحداثة، ويساعده على مواجهة عالم لا يتعترف به!
- حتى العلاقة مع المسيحيين لاحظ المسيري أنها في المجتمع التقليدي كانت طيبة ومستقرة، ويروي موقفاً ذا دلالة عنما حضر أمسية ثقافية في المجلس البريطاني للاستماع إلى السيرة الهلالية التي تبدأ عادة بالصلاة والسلام على النبي.. لكن المنشد عندما لاحظ أن هناك عدداً كبيراً من الأجانب أتبع مجاملاً الصلاة على النبي بالقول: وكل اللي له نبي يصلي عليه!