في ديسمبر 2008، في الدورة الاستثنائية للمؤتمر الشعبي العام، وقف أحد الآباء المؤسسين للحزب، عبد السلام العنسي، على المنصة. وجه خطاباً صريحاً لرئيس الحزب، آنذاك رئيس الجمهورية، صالح. قال له إن فكرة إجراء انتخابات في وجود أزمة مع المشترك وحرب في صعدة هي فكرة مدمّرة. كان العنسي يرى أن الأزمة الوطنية وصلت منحنى خطراً وأن هناك حاجة إلى مؤتمر عام للحوار الوطني يأخذ مداه الزمني من عام إلى عامين. تجاهل صالح النظر إليه أثناء كلمته. كان العنسي يحاول أن يصل إلى عيني صالح، فخاطبه مراراً: اصغِ إلي، يا فخامة الرئيس. لكن صالح لم يكن بمستطاعه أن يستمع لأي حديث عن أزمة. كان كل شيء على ما يرام، غير أن الأعداء يحومون في الخارج. مع آخر كلمات العنسي سخر منه صالح قائلاً إن أحداً لم يصفق لكلمته، أي أن أحداً لم يتفق معه. بعد حوالي أسبوع أجرت صحيفة الشموع لقاء مع العنسي. قال العنسي للصحيفة: البلاد مقدمة على أزمة سياسية كبيرة أو كارثة سياسية كبيرة في نهاية المطاف. العنسي ليس المثقف الوحيد، داخل حزب المؤتمر، من بمقدوره التنبؤ بالزلازل. كان المؤتمر يبحر على الدوام على مقربة من الأمواج العاتية. لكن العنسي ربما كان الأكثر شجاعة وأخلاقية. «لا وجود لأزمة سوى في عقول وقلوب المأزومين نتيجة غرائزهم وشعورهم الدائم بالفشل والخيبة»، هذا التعليق كان يقال دائماً منسوباً لمصدر مسؤول في الحزب الحاكم. ربما تناوب مثقفو الحزب أنفسهم، بمن فيهم أولئك الذين سيصبحون من قيادات الثورة، على كتابة هذه الجملة. لكن صالح، وكان قد أحاط نفسه بحزامين: حزام الصقور، وحزام المراهقين، لطالما قدم المبادرات لحل أزمات لا يعترف بوجودها. كان دائماً يتحدث عن الكروت والتكتيك، لكن البلد كان يغرق مثل جزيرة أتلانتس إلى الأعماق. خارج حزامي الصقور والأبناء المراهقين تجمع مثقفو المؤتمر الشعبي العام في حشد ضخم بلا جدوى. لطالما كان صالح ينتقي منهم، ليدمجه ضمن دوائره الضيقة، الأكثر حماساً وشجاعة للقول إن كل شيء على ما يرام، وأن اليمن من أفضل الدول، ولولا الخونة في الداخل والخارج لكنا في مقدمة الصفوف. ظهرت جماعة انتهازية جديدة، كانت ترى أنها بما اكتسبته من معارف وعلوم تستحق أن تعيش وضعاً مالياً واجتماعياً أفضل. لذلك عمدت هذه الفئة، على نحو ما رأينا من مرافعات سمير اليوسفي وعادل الشجاع وأمين الوائلي، لعرض خدماتها في البدء دون مقابل. بفعل احتياج نظام صالح على الدوام لمن بمقدوره أن يبيع على المكشوف، يهدر كرامة خصومه ويتحدث عن إنجاز الزعيم، فلم يكن هؤلاء بحاجة للانتظار طويلاً حتى تفتح عليهم حنفيات الرزق. دعونا نتذكر أن سمير اليوسفي كتب مانشيت رئيسياً في الجمهورية يتحدث عن افتتاح صالح لعدد حوالي 5 آلاف مشروع في إب، في احتفالية الثورة! وبينما كان عبدالسلام العنسي يغادر النواة إلى المدارات الخاملة في الخارج كانت هناك مجموعة كبيرة تتوافد على المركز، من حملة الدكتوراه، ومن «صنّاع الموافقات» بتعبير ناعوم تشومسكي. وكان هؤلاء يؤدون جيداً ما يتوقعه صالح وأبناؤه، بصرف النظر عن كل ما سيقال خارج نظام الأسرة. غير أن مثقفي الحزب الحاكم وساسته راقبوا كل ذلك ولم يمتلكوا الشجاعة لأحد أمرين: لدق جرس الإنذار، أو للاستقالة. لم تكن الثورة، ثورة فبراير، مفاجأة سوى لصالح والفريق الضيق الذي يحيط به. في الخارج كان كل شيء لا يقود للثورة وحسب، بل للفوضى أيضاً، وحرب الكل ضد الكل. بدا أن المؤتمر الشعبي العام قد خسر كل شيء، وأنه في طريقه لمواجهة مصير حزب بن علي في تونس، أو الوطني في مصر. غير أن المبادرة الخليجية التي جاءت في وقت مناسب بالنسبة للحزب أنقذته من الصيرورة التاريخية. فقد كانت الثورة تنحو المنحى السوري، أو الليبي: حروب صنعاء، أبين، تعز، نهم، أرحب.. الخ. الصقور القريبون من صالح وزعوا الأسلحة والشبيحة على كل الخارطة، في المقابل كان هناك توزيع أفقي لقوى الثورة، مدجج بالسلاح أيضاً. فشل حروب صالح في صنعاءوتعز دفعه للتراجع. في الواجهة كان صالح، فقط، وأسرته، ونظامه العسكري الأسري. خرج المؤتمر، كحزب، عن السياق، حتى البركاني لم ينطق لفترة طويلة. كان الحزب قد انتهى عملياً، حتى جاءت المبادرة الخليجية فأعادته للحياة، أعادت الحزب ورتبت خروجاً سلساً للأسرة. لم يعد قادراً على الحركة والكلام داخل النظام سوى أولئك القادرين على جلب الشبيحة والقتلة والمتظاهرين. تأخر بن دغر، والعنسي والإرياني، وتقدم العواضي والشائف وبن صغير. لقد انقلب الحزب رأساً على عقب، من حزب على طريقة جماعة مصالح إلى تنظيم ميليشوي يهتم لتوزيع السلاح وقطع الطرقات واختطاف المواطنين. بعد المبادرة الخليجية وانتهاء موجة الثورة بتسوية سياسية تعنى بالمستقبل عاد الحزب مرّة أخرى يبحث عن الأسرة، عن قادتها، عن أموالها، عن هيمنتها. لم يكن الإرياني، وهلال، والعواضي بحاجة لتسليم الحزب مرّة أخرى لشخص عائد من الموت. ثمة امتداد أفقي واسع للمؤتمر كحزب، لكن قياداته السياسية من خارج أسرة صالح مسكونة بعقيدة إن كل أولئك البشر تجمعوا فقط من أجل صالح. ربما كان الشيخ الفاشق، وهو رجل بلا معرفة، متقدماً على بن دغر عندما فرق بين صالح والمؤتمر في لقاء صحفي، مبدياً ولاءه للثاني. يحتفظ المؤتمر الشعبي العام بالجثة، وهو لا يحتاج إليها. صالح يتجاوز منتصف السبعينات من العمر، شوهته حروبه وأمراضه. لم يعد قادراً، بالمعنى الطبي، على العودة إلى الواجهة. غير أن الإرياني يقبل، وهو في الهزيع الأخير من العمر السياسي، أن يعمل حصان طروادة لعودة أبناء صالح المراهقين. يتعايش ياسر العواضي مع فكرة «حزب الأسرة» بدلاً عن فكرة: النأي بالحزب إلى أن يصبح بالمعنى السياسي حزباً، لا جماعة مصالح. استطاع أبو لحوم أن يؤسس لحزب خارج هيمنة جثة صالح. في العام 2006 ظهر أبو لحوم على قناة الجزيرة وهو يرتدي شالاً عليه صورة واسم صالح. لكنه، فيما بعد، أدرك أن حمل الرجل للشال لفترة طويلة سينتهي به في مدار بلا مستقبل سياسي. إذ سيكون عليه أن يحمله على الدوام، وأن يردد تلك العبارات التي ترضي صاحب الصورة، ويمحي شخصيته المستقلة. فالطريق الآخر هو مغادرة النواة، على طريقة عبدالسلام العنسي. هناك طريق ثالث، بكل تأكيد، وهو أن يستجمع المؤتمر قواه ويدفن الجثة.