هناك فقراء لا يعرفون الدفء فبيوتهم تشبه العراء يلتحفون خرقا بالية يقاومون قسوة الصقيع بما يستطيعون لبسه أو أخذه من المحسنين وهناك آخرون بالقرب من الأرصفة والدكاكين والمنازل التي لازالت مغلقة يبيتون في العراء بلا مأوى آمن، وبلا حياة كريمة، في عز موجة البرد الشديد غير المسبوقة التي تسود اليمن، وخاصة العاصمة والتي يسكنها كثير من المشردين والمجانين والعاملين الذين بلا مأوى، حاولت الاقتراب قليلا والتقطت بعض الصور، مشردون صغارا وكبارا لا يعرفون الليل من النهار فلا مأوى يسترهم، يعيشون بما يجود به المحسنون ومنهم من يعيش على تلميع أحذية الناس. محمد الحرازي يسكن هو وزوجته المصابة بشلل كامل بالقرب من السجن المركزي، منزل بارد صغير تعلو جدرانه التشققات وتشعر بالرياح الباردة تحطم عظامك عند مدخل الباب.. زوجته المريضة تحاول تخفيف ارتعاشة جسدها ببعض البطانيات البالية، يقول زوجها: لا أجد أنا وزوجتي إلا القليل من الطعام وتلك البطانيات المهترئة هي ما نتدفأ به كما ترين، فأنا عامل يوما أجد وأسابيع أظل انتظر وأحيانا تطول لشهور وكل ما أكسبه أعالج به زوجتي وأوفر بعضا من الطعام. تذرف زوجته الدموع وهي تقول: كنا قبل سنوات أفضل الناس كان لدى الناس الرحمة أما الآن فقليل فقط من يرى المساكين وترأف قلوبهم، كم هناك من أسر فقيرة تمرض وتشارف على الهلاك بسبب البرد ولا مجيب. منزل آخر يسكنه ستة أطفال مع أمهم وأبيهم يحشرون أجسادهم في غرفة ضيقة تظهر على جدرانها فتحات عديدة يدخل منها البرد ويفتك بهم. أما محمد الضيفي يعمل حارسا في أرضية بمنطقة صرف وللظروف الصعبة التي تحيط به اضطر العيش هو وأولاده في مكان شبه نائي وتحت سياط البرد.. يقول: في هذه المنطقة يزداد البرد حدة على أولادي يمرضون بشكل متواصل ولا أستطيع معالجتهم والذهاب بهم إلى المشفى، إضافة إلى ذلك لا يوجد لدينا أثاث وبطانيات ولا حتى ثياب ثقيلة نستطيع على الاقل حماية أنفسنا من البرد. طفلته بسمه (12سنة) تقول: نموت بردا أنا وأخوتي فلا ملابس تدفئ أجسادنا والمنزل مثل (المنخل) تدخل الرياح والغبار إليه، أعاني وأخوتي من التهابات شديدة في الصدر، كم نتمنى أن نحصل على بعض من البطانيات والملابس.. قطع كلامها سعال شديد منعها مواصلة الحديث كذلك هم إخوانها الصغار علت التشققات جلودهم الطرية وأقعدهم المرض الفراش. لم يختلف الوضع عند سكان المنطقة تلك فمعظمهم من الفقراء المعسرين الذين يصارعون البرد وشظف العيش حتى يظلون على قيد الحياة.
أرصفة.. الصقيع الأطفال العاملون في الشوارع وكذلك المشردون والمجانين يعيشون حياة البؤس ويتجرعون أقسى أنواع المعاناة، لا يعرفون سوى الإهمال ولا ينظر إلى وضعهم المزري ولا حياتهم الصعبة، فكم من أطفال بؤساء يعانون من البرد ترتجف أجسادهم وترتعد أطرافهم وهم يبحثون عن لقمة دافئة تدفئ بطونهم الخاوية، وأيضا شيوخ أنهكتهم السنوات وهم لا زالوا يجوبون الشوارع في البرد القارس يستجدون الناس طعاما دافئا أو أغطية تحميهم من برد ليالي طويلة وقاسية ...نساء ورجال اتفقوا جميعا في الملامح، وعلامات الزمن تبدو على الوجه خطوطا وتجاعيد وحين كان لابد لنا أن نتذكر أولئك الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، كانت المحطة الأولى التي توقفنا فيها شارع الجامعة مشهد يستدعي الشفقة وتسيل لأجله دموع العيون امرأة عجوز قد بدا تعب الزمن في تجاعيد وجهها قالت بما تبقى لديها من قدرة على التمييز: أعيش على هذه الحالة سنوات خلت وفي ظروف قاهرة، حيث تداهمني الرياح والأمطار والجو البارد كل ليلة، لا أملك في جيبي ما أسد به الرمق وما أحصل عليه يكفني الطعام فقط، ولأنها مقطوعة من شجرة وقد أصبح جسدها مرهقا نحيفا حتى الرمق الأخير..طالبت هذه العجوز حل معاناتها مع حياة الشارع وقسوة البرد بإلحاقها بدار العجزة. الأطفال العاملون والمتسولون لو كان بوسعهم إتقاء حرارة الشمس وقسوة البرد وتأثير عوادم المركبات لفعلوا، لكن الكبار استخدموهم كأدوات تسول وصولا إلى مبتغاهم واستدرارا لعطف الناس. هذا هو واقع حال الأطفال الذين يقبعون لساعات طوال في مفترق الطرقات وأمام إشارات المرور. المواطن علي شرف الصغير "معلم" أكد أن منظر الأطفال المتسولين والعاملين من قبل ذويهم أصبح مألوفا لديه ويشاهده بشكل شبه يومي، وذلك خلال ذهابه لدوامه إذ لا تخلو إشارة واحدة دون أن تحظى كافة أقطابها الأربعة بمتسولين يبدأ عملهم من ساعات الفجر وينتهي قبل منتصف الليل دون رقيب أو حسيب. وأشار سفيان الحرازي (موظف) أن القضية ومحور المشكلة ليس التسول وإن كان مشكلة في حد ذاته، إلا أن إفرازاته أدت إلى تسخير أطفال لم يتجاوز بعضهم العامين للتوسل والتنقل بهم لساعات طوال بين المركبات طلباً للمال، دون أن يتم مراعاة الجانب الإنساني لهؤلاء، مؤكدا على الجهات المعنية سواء كانت الشؤون الاجتماعية أو وزارة حقوق الإنسان أن تضطلع بواجبها كاملا لإنهاء هذه الظاهرة التي تتنافى مع أبسط حقوق الإنسان بصرف النظر عن جنسيته. ويؤكد المواطن محمد أحمد أن الأطفال العاملون وكذلك المتسولون يعانون بشكل قاس البرد وقسوة الشتاء، والاستغلال من كل النواحي، متمنيا أن تعمل الجهات المسؤولة على حمايتهم وتوفير مؤنة الشتاء البارد لهؤلاء الأطفال حتى لا نجد أحدهم وقد أرداه البرد قتيلا. ومن بعد آخر يرى سعيد سالم أن طريقة المتسولين المتمثلة في نشر النساء والأطفال تنم عن أن الطريقة منظمة وليست عفوية، وأن وراء ذلك عصابات تجمع الأموال، ولا تراعي الظروف القاسية وخاصة هذه الأيام، معتبرا أن المشكلة تتفاقم يوما بعد يوم في ظل غياب الجهات المعنية عن أداء دورها المتمثل في ضبط المتسولين، ومنع استخدام الأطفال الذين لا ذنب لهم في مهمة شاقة وبصورة شبه يومية في وجه الصقيع البارد. (أسامة) كان يسير منهكا بأقدامه الدامية فلقد توجعت والتهبت من شدة البرد القارس يستجدي قدميه أن تواصل المسير، وأن تستحث الخطى ويَجُوب بناظريه المكان وتنهيدة تنفجر من صدره المكلوم، باحثاً عن بقعةٍ تَصلُح لأن تكون قبرًا، تَحمل جسده المُنهك، وتَزُف روحه إلى مثواها شريطة أنها لا تزال بعيدةً عن صفة انتهاء الصلاحية، فلا يجتمع والأموات في حفرة.. يفترشُ الأرض ويلتحف السماء، ثيابه البالية لا تتسع لأن تكون غطاءً لجسدٍ وروحٍ قد تمزقا كحالتها.. سألته ماذا تعمل؟ قال لي: أتسول أبحث عن عمل فلا أسرة لي.. هربت من قسوة خالتي إلى وجع الشوارع- كان يتحدث وجسده يرتعش من البرد- أبحث عن مكان يؤيني أو من يعطيني ثيابا أو شيئا أتدفأ به.. حينها أشار من بعيد لأسامة. أطفال مشردون مثله فتركني جريا إليهم عندما رأى قليلا من الطعام في أيديهم المتسخة.
مؤشرات للكارثة تنبئ المؤشرات المحلية والدولية صورة قاتمة عن الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في اليمن. وتشير البيانات إلى أن مشكلة الفقر وصلت إلى 54.4% من السكان الذين يقدّر عددهم بنحو 25 مليون نسمة جرّاء الآثار السلبية الناجمة عن الأحداث والتداعيات التي شهدتها البلاد خلال عام 2011. ووفق الإحصاءات الدولية يعاني اليمن واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم إذ أن 13.1 مليون يمني لا يستطيعون الحصول على مياه صالحة للشرب والصرف الصحي، و6.4 مليون يمني لا يستطيعون الحصول على الرعاية الصحية، فضلاً عن وجود 998 ألف طفل يعانون سوء التغذية، و431 ألف نازح، و105 آلاف عائدون إلى ديارهم في أبين، و269 ألف لاجئ، و100 ألف من المهاجرين الضعفاء. وأمام كل تلك المؤشرات الخطيرة هل سيظل الفقراء في اليمن في القوائم الأخيرة لحل مشاكلهم ومعاناتهم وهل سيعرفون الدفء قريبا؟!