نعترف أن وصف ما حدث في مصر الكنانة بأنه انقلاب عسكري ليس دقيقاً أو على الأقل يظل وصفاً ناقصاً يحتاج إلى صفة أخرى ليأخذ حقه في التعبير عن مضمونه.. والخلاصة أن تجربة الشهور الماضية في مصر تؤكد أنه بالفعل: انقلاب عسكري.. ضاحك! والغريب أن الفكاهة الملحوظة في الانقلاب العسكري في مصر تبدو غريبة على المشهد الانقلابي الأول الذي ظهر فيه عدد من قادة الجيش المصري، والسياسيين والقانونيين الطاعنين في السن، وبابا الأقباط وشيخ الأزهر.. وكلهم كان يجمعهم قاسم مشترك هو التجهم والكآبة التي قد تكون أثارت المخاوف على مستقبل الكوميديا المصرية الأشهر في المنطقة العربية! الإنصاف يفرض القول إن مشهد الكآبة والتجهم المذكور لم يكن يعكس حقيقة المستقبل الفكاهي الذي جاء به الانقلاب، وربما كان لمفاجأة إعلان الانقلاب وعزل أول رئيس منتخب هو الذي غطى في البداية على مكونات الكوميديا في العملية كلها وفي المشهد الأول فيها.. فهناك أولا نكتة أن وزيرا معيّنا يعزل رئيساً منتخباً.. وهناك طرفة مشاركة بابا الكنيسة وشيخ الأزهر في عملية سياسية عسكرية انقلابية بحتة رغم أنهما ينتميان لمؤسستين من نوعية (ما لله لله.. وما لقيصر لقيصر).. والحقيقة أنهما يؤمنان بأن ما لله وما لقيصر كله ..لقيصر! ولذلك كان صوت الشيخ والبابا (السابق) أقوى الأصوات المنددة بالخروج على شرعية المخلوع مبارك أثناء ثورة 25 يناير؛ بوصفه ولي الأمر الشرعي الواجب طاعته.. وإن نهب.. وسرق.. وقتل.. وبطش.. وداس الدستور والقوانين بأقدام بطانته وأحذيتهم.. وفعلا مثل ذلك مع العسكر.. وفقط في فترة الرئيس المنتخب أفتيا بان المظاهرات والاعتصامات حلال! المشهد أيضاً لم تنقصه فكاهة وجود عتاة دعاة رفض الدولة الدينية لصالح الدولة المدنية المأسوف عليها.. وكذلك كبار قضاة مصر الموكل إليهم المحافظة على الدستور وسلامة تطبيق القوانين، ومشاركتهم في تنفيذ انقلاب عسكري كامل الأوصاف! ألا يستحق الانقلاب العسكري مع هذه المواصفات الكوميدية أن يوصف بأنه: انقلاب المشاغبين على صيغة: مدرسة المشاغبين؟
فقاعة الفكاهة انفجرت فور إعلان الانقلاب المصري؛ فصدرت له شهادة ميلاد فورية بأنه (ثورة) أو (سَورة) باللهجة المصرية.. وحسم الأمر بشهادة عتاولة نظام المخلوع مبارك بأنها (ثورة) وأفضل وأشرف من ثورة 25 يناير كمان! واستوى الانقلاب ثورة شعبية وتصحيحا للانحراف باعتراف كل الجهات المحلية والخارجية به فورا، والتي كان يجمعها بأنها كانت معارضة لثورة المصريين في 25 يناير، وهي أيضا التي احتضنت رجال المخلوع المصري في الأيام السوداء، ودعمت عودتهم إلى السلطة سالمين غانمين! ومنذ ذلك اليوم تنوعت مظاهر الكوميديا لتؤكد أن ما حدث في مصر هو انقلاب عسكري ضاحك؛ فالمظاهرات والاعتصامات صارت محرمة، ويستحق أصحابها القتل والحرق والحبس مع أن (سورة سلاسين يونيو) كانت عبارة عن مظاهرات واعتصامات بدءاً وانتهاء ولمدة ست ساعات فقط.. وبدون قشرة أي بدون سقوط شهيد واحد! وشاع في الأيام الأولى أن الدستور الجديد سوف ينص على عدم جواز خلع الرئيس المنتخب بالمظاهرات والاعتصامات!
ولا بأس أن نتجاوز الزمن قليلاً لنصل إلى مشهدين فكاهيين حديثين في المسرحية الضاحكة نفسها.. فعندما حدث خلاف بين وزير التعليم العالي (د. حسام عيسى) ورئيس جامعة القاهرة (د. جابر نصار)، وشاع أن الأول سوف يعزل الثاني؛ رد هذا بأنه منتخب ولا يجوز للوزير عزله! والنكتة هنا أن رئيس جامعة القاهرة؛ وهو أحد عتاة رجال مبارك وابنه جمال؛ هو أحد عتاولة الانقلاب العسكري الضاحك الذي تم فيه عزل رئيس منتخب من قبل وزير معيّن.. فرئيس أكبر جامعة عربية يقبل عزل وزير لرئيس منتخب مسؤول عنه، ولا يقبل أن يعزله وزيره المسؤول عنه!
المشهد الآخر؛ له علاقة باستفتاء مجلة (تايم) الأمريكية حول شخصية العام؛ فقد حصل قائد الانقلاب العسكري الضاحك على أعلى نسبة في تصويت القراء لكنه فشل في عملية التصويت التي يقوم بها محررو المجلة، وهو التصويت الأساس في اختيار الفائز وليس التصويت عبر الإنترنت التي يمكن أن ينجح فيه حتى أمثال ياسر اليماني ويحيى الراعي إن وظفا مجموعة متفرغة للتصويت الإلكتروني.. فالتصويت الأول هو تصويت خبراء والآخر هو تصويت غير ملزم أو أساسي لأن يعلمون سهولة تزويره! الكوميديا أن أنصار قائد الانقلاب العسكري الضاحك ثاروا لاستبعاد صاحبهم، وكانت حجتهم أن السيسي فاز بالأصوات ولا يجوز تجاوزه! ونسوا أنه هو الذي سنّ السنة السيئة لمجلة (تايم) الأمريكية عندما داس على الأصوات التي حصل على د. مرسي! المشهد نفسه كان زاخراً بالفكاهة؛ فشيخ قبيلة (العامرين) البدوية ويدعى الشيخ/ محمد خضير بمنطقة العين السخنة بالسويس؛ احتج على استبعاد السيسي من الاستفتاء، وأعلن أن أبناء القبائل البدوية بالسويس وعددا كبيرا من القيادات الشعبية بالسويس قرروا إطلاق حملة شعبية من أجل مقاطعة مجلة "التايم" الأمريكية بسبب عدم احترامها لمشاركات المصريين في استفتاء التايم عن شخصية العام! وعلى حد قوله لبوابة الشروق المصرية فإن الملايين من أبناء الشعب، شاركوا في استفتاء "التايم" ثقة فيها أنها سوف تلتزم بالحياد، ولكن من الواضح أن الإدارة الأمريكية مسيطرة عليها، ومجاراة للموضة أفتى: "المال الإخواني ساعد في تغيير سياسة المجلة". وأشار إلى أنهم لذلك: قررنا إطلاق حملة شعبية لمقاطعة مجلة التايم الأمريكية بشكل كامل خلال الفترة القادمة! وكما هو معروف؛ فالمجلة أمريكية وتصدر باللغة الإنجليزية (ولا أظن أن لها طبعة عربية)؛ وبنسبة 500% فإن شيخ القبيلة لم يسمع باسم (تايم) إلا إذا كان مولعاً بشوكلاتة (هاف تايم).. أما بقية أفراد القبيلة فالمؤكد أنهم لم يسمعوا بعد بمجلتي (ميكي) و(سمير) المصريتين فضلا عن مجلة تايم بالعربية.. ناهيكم عن الطبعة الإنجليزية! مسكينة مجلة تايم ومحظوظة في الوقت نفسه؛ فهي مسكينة فلن يقرأها الشيخ خضير وأفراد قبيلته بعد الآن، وهي محظوظة بل يكفيها حظا أن المتثقفين في قبيلة العامرين قرروا فقط مقاطعتها، ولن تتهم بالتخابر مع صحيفة.. الإخوان! أما الاتهامات التي توجهها النيابات المصرية لمعارضي الانقلاب، والأحكام التي يصدرها قضاة الانقلاب فهي ذروة الفكاهة في المسرحية كلها! وللمرة الأولى في مصر منذ أيام حكم قراقوش يتهم مصريون بجريمة اسمها: بالجهر والصياح لإحداث الفتنة! ولأول مرة يحبس تلميذ مصري لأنه وضع شعار رابعة على مسطرته (للأمانة: أفرج عنه مؤخرا بكفالة 500 جنيه!).. ولأول مرة منذ اختراع آلات التصوير يتهم مصور بأنه يحمل سلاحا ويزج به في السجن منذ أغسطس حتى الآن بتهمة ممارسة العنف! قضية هروب المساجين من سجن النطرون أثناء ثورة 25 يناير هي إحدى أبرز مظاهر الانقلاب الضاحك؛ فهي تحولت إلى عملية إقليمية دولية شاركت فيها حماس وحزب الله والتنظيم الدولي للإخوان، ومتهم فيها رئيس دولة وقادة مشاهير في مصر.. كل جريمتهم أنهم وجدوا بوابة السجن مفتوحة فخرجوا؛ مع أن كل التقاليد الفرعونية كانت توجب عليهم أن يمنعوا المساجين من الهروب، ويقوموا بدور السجان للمحافظة على القانون مثل قتل الفارين أو حرقهم كما صنعت سلطة الانقلاب مع معارضيها! الاتهامات الموجهة للرئيس المصري مرسي وللمعتقلين السياسيين معه وصلت إلى درجة اتهامهم بالإضرار بالثروة الحيوانية المملوكة للدولة الموجودة في السجن، والمقصود تحديدا الدواجن والمواشي التي يتم تربيتها داخل السجن.. وفي هذه فالحق مع الانقلابيين.. لأنه من الجائز أن يثور الشعب ضد الدولة، ويجبر مبارك وليس الديك والدجاجة أو البطة على الاستقالة.. لكن المساس بالدواجن والغنم الميري(قطاع عام) هي جريمة الجرائم ولا تسقط بالتقادم أو بالأكل.. عيب.. وما يصحش..كل واحد معه دجاج وبط ومعيز في بيته.. والذي يتعدى على دجاج ومعيز الغير تعاقبه الدولة في دجاجه ومعيزه!
من الاتهامات المثيرة للمفارقة؛ اتهام المعتقلين بأنهم اقتنوا أسلحة ثقيلة (!) للإضرار بالنظام المصري.. وأولا فمعنى أسلحة ثقيلة: دبابات- مصفحات- مضادات طائرات الخ.. ومن غير المعقول أن الذين هجموا على السجون؛ بافتراض صحة التهمة؛ كانوا يملكون هذه الأسلحة.. ثم ما ذنب المعتقلين في هذا؟ مصر كانت في ثورة ضد النظام كله، والثورة معناها: كسر الدساتير والقوانين تماما كما فعل الانقلابيون.. واستولى الجيش على السلطة.. وقامت سلطة جديدة، ورئيس السلطة السابقة وأولاده وزوجته وأعوانه تم حبسهم ومحاكمتهم بقرار من المجلس العسكري، وأدانهم القضاء نفسه.. فأين هي جريمة الذي حملوا سلاح للإضرار بهذا النظام المقلوب؟ أيهما أشد إضرارا بالنظام المصري (أيام مبارك) الذين خرجوا إلى الشوارع والميادين طوال 18 يوما وأسقطوه أم المعتقلون خارج القانون الذين خرجوا من السجن بعد أن انهار النظام كله؟ أليس من الواجب في هذه الحالة محاكمة كل قيادات الأحزاب والمستقلين الذين شاركوا في الإطاحة بمبارك ونظامه بتهمة الإضرار.. بالنظام المصري رافعين شعار: الشعب يريد إسقاط النظام؟ وكذلك الذين أيدوا الثورة في العالم العربي واليمن خاصة؟ ولأن في مصر مضحكات كثيرة؛ فها هي قرابة خمسة أشهر تمر على مذابح ميداني رابعة والنهضة وغيرهما ولا نتيجة للتحقيقات.. وقبل فترة أصدر وزير الزراعة المصرية قرارا حاسما للتحقيق حول أسباب انتحار.. زرافة في حديقة الحيوان المصرية!