اكتسح حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الانتخابات البلدية بنسبة فوز عالية تقترب من 47% وهي نسبة لم يحققها أي حزب تركي من قبل في انتخابات مماثلة, لينال بذلك ثقة الشعب التركي ويكرس نفسه حاكما لتركيا لفترة قادمة. ويعد هذا الفوز السادس بالنسبة لحزب العدالة منذ صعوده إلى السلطة عام 2002, وكان قد فاز في آخر انتخابات بلدية في العام 2009 بنسبة بلغت 38,8% . ثمة دلالات ومعانِ تفصح عنها نتيجة الانتخابات التركية أهمها؛ أنه بقدر ثقة الشعب بقيادته بقدر ما تحقق تلك القيادة تقدما وتحرز نجاحات متوالية, فيما يمثل إيمان القيادة بمبادئها وانحيازها لمصالح شعبها عامل مهم آخر في نجاحها. لقد تعرض الشعب التركي قبيل الانتخابات لأكبر حملة تضليل إعلامية استهدفت التلاعب بقناعاته تجاه حزب العدالة والنيل من رموزه, لكن ثقته بقيادته لم تتزعزع, بل إن تلك الحملة زادت من شعبية الحزب, وأثبت الأتراك أنهم كانوا أكثر وعيا لما يحاك ضدهم, وأدركوا مرامي وأبعاد الهجمة الإعلامية الشرسة التي تواطأت فيها أطراف داخل تركيا, وأرادت النيل ليس من حزب العدالة وحسب بل ومن تركيا عموما.
لقد انتصر الشعب التركي لمبادئ الحرية والديمقراطية والرفاه الاقتصادي التي عززتها تجربة حزب العدالة وحكومته ونهضت بالبلاد خلال عقد واحد من الزمن إلى مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا وسياسيا وتكنولوجيا وعسكريا, وأوصلت تركيا إلى المرتبة السادسة عشر من حيث القوة الاقتصادية العالمية بعدما ظلت متخبطة وغارقة في الفساد لفترة طويلة إبان حكم العسكر.
ومن الدلالات المهمة كذلك في التجربة التركية أن الانتخابات الحرة النزيهة برهنت بجلاء على صوابية الخيار الديمقراطي لحل الخلافات السياسية وتجنيب البلاد مخاطر الصراعات والعنف والاحتراب, وأثبتت أنه لا مكان للجماعات المسلحة ولا دور لها في بناء الأوطان وإنعاش الحياة السياسية وخلق رفاه اقتصادي, فجماعات العنف والإرهاب لا تستطيع العيش في أجواء الحرية واحترام حقوق الانسان, وهي لا تزدهر في مناخ ديمقراطي تشاركي كون الديمقراطية تعريها وتفضحها حتى أمام أتباعها ومناصريها.
نجحت الديمقراطية التركية ليس لأن الاسلاميين هم من يفوزون بها على الدوام, وإن كان ذلك أحد مظاهر تألقها ونجاحها, ولكن لأن ثمة دولة حقيقية تحترم نفسها وتمتثل لإرادة شعبها, تلك هي الخلاصة باختصار. نجحت الديمقراطية التركية لأنه لا وجود لدولة داخل الدولة تعيقها, ولا وجود لجماعات إرهابية تبتزها وتهددها في معقلها وتفرض عليها تقديم تنازلات مهينة ومذلة. نجحت الديمقراطية التركية لأن ثمة دولة قوية تحميها وتقوم بواجباتها كدولة يستظل الجميع بها, لا كحكم قبلي يثير الشفقة ويبعث على الأسى والحزن.
نجحت الديمقراطية التركية كونها نأت بنفسها عن المزايدات والتهريج السياسي الذي يمارسوه الكثيرون في بلادنا, مشفوعا بتزوير الانتخابات عبر شراء الذمم واللعب بالورقة الأمنية وتوظيف الجيش والمال العام والوظيفة العامة والتلاعب بسجلات الناخبين والتحايل على النتائج بل وإعلانها قبل إتمام عملية الفرز. لأنه لا شيء من ذلك تقدم التجربة التركية نموذجا يُحتذى ينتصر للديمقراطية وللديمقراطية فقط.