: تذكير بمعنى الانتماء الحقيقي لمحمد صلى الله عليه وسلم أولاً: إنسان من ولد آدم مخلوق من طين: بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت إحدى المسائل التي أكد عليها القرآن الكريم في أكثر من موضع؛ ليس فقط لتجنيب الدعوة الخاتمة مصير دعوات سابقة، ولا لأنه القدوة التي أمرنا بالاقتداء بها في كل خلق وعبادة وأدب وسلوك ومعاملة.. ولكن أيضا لأن الإنسان بطبيعته؛ وبوسوسة الشيطان؛ يميل إلى تمجيد العظماء وتأليههم، وتقديسهم، ورفعهم عن مستوى البشر إلى مستوى الإله ثم عبادتهم من دون الله أحيانا وإشراكه بهم في حالات كثيرة! كما حدث مع قوم نوح عليه السلام، وكما حدث من بعد مع أنبياء أبرزهم نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام! برئت الأمة من محنة تأليه نبينا صلى الله عليه وسلم على مر العصور؛ تأثرا بالآيات الكريمة التي أكدت على بشريته، ومنها: -(قلْ إنَّما أنا بشرٌ مِثلُكُم يُوحى إليَّ أنَّما إلهُكُم إلهٌ واحدٌ). -( قلْ لا أقولُ لكم عندي خزائِنُ الله ولا أعلمُ الغيبَ ولا أقولُ لكم إنِّي مَلَكٌ إن أتَّبِعُ إلاَّ ما يُوحى إليَّ قُل هل يَستوي الأعمى والبصيرُ أفلا تتفكَّرون ( -(قلْ لا أملكُ لنفسي نَفعاً ولا ضرَّاً إلاَّ ما شاءَ الله ولو كنتُ أعلمُ الغيبَ لاستكثرتُ من الخيرِ وما مسَّنيَ السُّوءُ إن أنا إلاَّ نذيرٌ وبشيرٌ لقومٍ يؤمنون) -(وما جعلنا لبشرٍ من قَبْلِكَ الخُلدَ أفإِن مِتَّ فَهمُ الخالدون) -(إنَّك ميِّتٌ وإنَّهم ميِّتون). لكن في مقابل حفظ الله تعالى لنبيه أن تعظمه أمته كالآلهة والملوك؛ فقد ابتليت الأمة بجهالات وبدع وشطحات قدست وألّهت من هم دونه مقاما وعظمة من الأشخاص.. حتى وصل الأمر إلى تقديس الموتى، والقبور والأحجار والتراب، والجدران، والأرض التي تدوسها النعال، ومنحها ما هو لله خالصا من الخشوع، والدعاء، وطلب العون، والسكون إليها وهي رمم لا تنفع ولا تضر! ثانيا: الذين كانوا معه.. الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، وعرفوه وعاشوا معه، ورأوا عظمة هذا النبي وخلقه لم يقدسوه مرة تقديسا يخرج به عن حقيقته كإنسان، فقد كانوا ينهلون العقيدة من معينها الصافي، وكانوا يجدونه يحذرهم دائما أن يجعلوا منه صنما أو مخلوقا فوق البشر.. وإذا اقتضى الأمر ذكرهم أنه ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة.. لم يكن يستكبر أن يذكرهم أنه بشر مثلهم يخطئ في أمور الدنيا ويصيب، ويقبل رأي واحد منهم غن وجد فيه رأيا أحكم من رأيه.. كان مثلهم يفرح ويحزن، ويأكل ويشرب، وينام ويقوم الليل، ويحب هذا الطعام وذاك الشراب، ويحب هذا الثوب وذلك الصوت الجميل.. يعرف قدر الناس ويحترمهم دون تفريق بين من كان عبدا سابقا أو دميم الخلقة أو أسود اللون أو كان يكنس المسجد ويخدم الآخرين! ورغم كل ذلك التواضع فلم يزده ذلك إلا حبا ورفعة في نفوس أصحابه حتى فدوه بالغالي والنفيس.. وماتوا ليحموه.. وجعلوا أجسامهم دروعا تحميه من غوائل المشركين والحاقدين! وحفظ لنا التاريخ نماذج راقية لهذا الحب العظيم الذي سكن قلوب الصحابة رضوان الله عليهم لنبيهم صاحب الخلق العظيم والرحمة المهداة لهم.. من كان فعلاً وقولاً رحيماً بهم شفوقاً عليهم، حرصا على دمائهم وأرواحهم ومشاعرهم أكثر من حرصه على غنيمة أو جاه! وفي كتب السيرة النبوية من نماذج حب لصحابة للنبي ما يلجم كل ناعق ومزوّر لجوهر الإسلام المؤسس على التوحيد والعدل والحرية والمساواة، وحفظ كرامة الإنسان واحترامه.. وفي ذكرى ميلاد الرحمة المهداة للعالمين كان مناسبا أن نتذكر بعضا من سيرته مع أصحابه من المستضعفين خاصة.. وبعضا من مظاهر حبهم له دون تقديس ولا تأليه ولا رفع له فوق مقام البشرية والعبودية التي كرمه الله بها! ثالثا: الحب العظيم بين الرسول وأصحابه 1- كانت أم عامر الأشهلية قد أصيبت يوم أحد في زوجها وأخيها وابيها فلكا نعوا لها استرجعت وحمدت الله ثم قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم عامر، هو بحمد الله كما تحبين.. قالت: أروني حتى أنظر إليه.. فأشير لها إليه حتى إذا رأته سليما قالت: كل مصيبة بعدك جلل (صغيرة) يا رسول الله. 2- وقع حبيب بن زيد بن عاصم في أسر مسيلمة الكذاب في حروب المرتدين؛ عذب واشتد في تعذيبه، وكان مسيلمة يقول له: أتشهد أن ممدا رسول الله فيقول حبيب: نعم أشهد أن محمدا رسول الله.. فيقول مسيلمة: أتشهد أني رسول الله فيقول حبيب: لا أسمع.. فجعل مسيلمة يقطع حبيبا عضوا عضوا حتى مات شهيدا لا يزيد على ذلك؛ إذا ذكر له رسول الله آمن به وصلى عليه، وإذا ذكر مسيلمة قال: لا أسمع. 3- أهدت امرأة رسول الله بردة نسجتها بيدها فأخذها محتاجا إليها/ وخرج على أصحابه وهي إزاره فقال رجل من القوم: يا رسول الله اكسنيها؟ فقال: نعم.. فلما أنهى مجلسه رجع البيت فطواها ثم أرسا بها إليه فعاتب الناس الرجل فقال: والله ما سألته إلا لتكون كفني يوم أموت.. قال الراوي: فكانت كفنه! 4- لما فرغ الرسول من نحر هديه في حجة الوداع دعا بالحلاق وحضر الصحابة يطلبون شعره، وخالد بن الوليد يقول: يا رسول الله؛ ناصيتك لا تؤثر علي بها أحدا، فداك أبي وأمي.. فأعطاه ناصيته فقبلها خالد ووضعها علي عينيه ثم جعلها في قلنسوته، وفرق شعره بين الناس.. وحين حضر أنس بن مالك الوفاة أخرج شعرة من شعر الرسول وقال لثابت البناني: إذا أنا متّ فضعها تحت لساني فكان كما أراد. 5- كان عبد الله المزني من المسلمين المستضعفين، وكان قومه يضيقون عليه حتى تركوه في بجاد (كساء غليظ) واحد ليس عليه غيره، فهرب منهم إلى رسول الله لما كان قريبا منه شق بجاده نصفين فأتزر بواحد واشتمل بالآخر قيل له: ذو البجادين.. وقد خرج في غزوة تبوك ومات في الطريق.. قال ابن مسعود: قمت من جوف الليل رأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فاتبعتها أنظر إليها فإذا رسول الله وأبو بكر وعمر يدليانه إليه وهو يقول: أدنيا إليّ أخاكما فدليا إليه فلما هيأه لشقه قال: اللهم إني أمسيت راضيا عنه فأرض عنه.. وكان ابن مسعود يحدث بهذا ويقول: ليتني كنت صاحب الحفرة! 6- خطب رسول الله لصاحبه جليبيب ؛وكان قصي القامة وفي وجهه دمامة؛ إحدى بنات الأنصار، وشعرت البنت أن أبويها كأنهما قد حزنا أن يكون هذا نصيب بنتهما فقامت لهما وقرأت قوله تعالى: [ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم] ثم قالت: رضيت وسلمت لما يرضى لي به رسول الله، فسمع الرسول بذلك فدعا لها بالخير وقال: (اللهم أصبب الخير عليها صبا، ولا تجعل عيشها كدا) فقتل زوجها شهيدا بعد أيام من زواجها، وكانت من بعده من أغنى نساء الأنصار، وأكثرهن نفقة ومالا. رابعا: معنى انتصار محمد صلى الله عليه وسلم انتصار محمد صلى الله عليه وسلم غير انتصارات القادة والأباطرة والملوك.. فهؤلاء انتصارهم جاه وتيجان، وخضوع الناس لهم، وحفلات تكريم وتقديس ورفع للصور العملاقة؛ أما انتصاره فهو كما جاء في القرآن الكريم انتصار للفكرة وإيمان الناس بالإسلام ودخولهم فيه أفواجا: [ إذا جاء نصر الله والفتح — ورأيت الناس يدخلون في دين أفواجا — فسبح بحمد ربك واستغفره؛ إنه كان توابا.]. وفي الأسبوع الماضي استعرضنا نماذج حديثة جدا من اعتناق مفكرين ومشاهير غربيين للإسلام أو انتصارات جديدة للرسول صلى الله عليه وسلم، وقبل أبا مقللة أعلن عن إسلام ممثل عالمي شهير هو الأيرلندي: ليام نيسون الذي أعلن إسلامه بعد زيارة لتركيا لتصوير الجزء الثالث من سلسلة أفلام (taken3) تأثرا بصوت الأذان الذي سمعه من أحد مساجد إسطنبول.. ووفق صيفة الديلي ميل البريطانية فقد كان ليام كاثوليكيا يقرأ دائما عن وجود الله، وواجه أسئلة عن حقيقة وجود الإنسان في الأرض والهدف منه حتى وجد الإجابة في الإسلام. وفي تصريح للمصل العالمي أكد أن اعتناقه للإسلام كان عن اقتناع، وقد واجه صعوبة في أداء الصلوات الخمسة لمدة أسبوع لكنه اعتاد الآن، وصارت متعة روحانية جميلة. خامسا: انتصار .. محمد رسول الله [ مقتطفات من مقال نشر في الصحوة قبل بضع سنوات] [سبحانه .. يرفع من يشاء، ويضع من يشاء .. قضت حكمته وكرمه منذ بداية زمن الرسالة الخاتمة أن: (ورفعنا لك ذكرك) .. ومن يومها؛ ما يزال اسم (محمد) يرتفع بلا توقف .. بدأ الأمر من دار الأرقم بن أبي الأرقم وهو الآن يتمدد في كل بلد من بلدان الدنيا المعمورة؛ في كل قارة .. تحت كل سماء: يرتفع اسم (محمد) مشهوداً له بالرسالة وبالتبليغ عن خالق السموات والأرض .. شهادة مقرونة بشهادة التوحيد (لا إله إلا الله) التي قامت عليها السموات والأرض، وخلق من أجلها الإنس والجان، والملائكة، وكل مخلوق تراه العيون أو يستبطن جوف الأرض، أو يرفرف بين أوراق الشجر في الليل البهيم .. أو يستقر هادئاً تحت حجرة صماء في ليل مظلم في أعماق المحيطات والأنهار! *** رفع الله تعالى ذكر نبيه الخاتم –صلى الله عليه وسلم- فجعل الأصوات تصدح بهذا الاسم من على المآذن في إسطنبول، وجاكرتا، والمغرب المطل على الأطلسي .. وفي وديان اليمن .. وجبال الهندوكوش –وسهول آسيا الوسطى .. وصحارى جزيرة العرب.. (محمد رسول الله) تسمعها في كل مكان وتتسلل من قمرات سفن تمخر البحار والمحيطات تحمل موحدين يؤمنون بأن الله واحد لا شريك له وأن (محمداً) عبده ورسوله وحبيبه. *** ضاعت كنوز الأثرياء.. وبليت قصور الكبراء.. وفنيت جيوش القياصرة والأكاسرة وبقي ذكر (محمد) الذي كان يجوع فيشكر الله .. وينام على حصيرة خشنة تترك آثارها على جنبه .. يمر عليه الشهر والشهران والثلاثة الشهور وهو وأزواجه يأكلون التمر والماء .. ويعصب على بطنه ليسكن آلام الجوع .. ومات ودرعه مرهونة مقابل طعام يأكله هو وأزواجه .. ومع ذلك يقضي الليل قائماً راكعاً ساجعاً: شكر الله على نعمائه! *** لا يشينك أن يتطاول عليك الأقزام . ولا ينقص من قدرك سفاهة سفيه أو حقد ملحد زنديق.. أرادوا الإساءة إليك فرد الله كيدهم في نحورهم .. وزاد من رفع ذكرك بين البشر .. من لم يكن يعرف شيئاً عنك قبل ذلك اشتاق ليعرفك ويقرأ عنك! ونحن الذين نؤمن بك رسولاً خاتماً ازداد حبنا لك .. فجّرت الإساءات العقيمة من حب مئات الملايين بأكثر مما كان عليه الأمر من قبل! اكتشفوا أنهم لم يحبوك كما تستحق فسالت أعينهم ندماً على التقصير نحوك! وتعطرت الألسن بمدائحك .. وصدحت الأجواء بالأناشيد بلغات عدة تعلن حبك وحب رسالتك. آمناً، مجدداً، كم أنك عظيم، ورفيع القدر، لا تستحق ملوك الدنيا وعظماؤها أن يغسلوا قدميك أو ترتفع عيونهم إلى وجهك الكريم .. لولا أنك رحيم، متواضع، حليم، كريم، ابن امرأة كانت –كما قلت- تأكل القديد في مكة .. وكنت غلاماً ترعى لقريش أغنامها وأبناء سادتها يتمرغون في النعيم والملذات!].