ضابط مخابرات عربي هرب من بلده (الإفريقي) إلى فرنسا بعد صحوة ضمير متأخرة، وهناك تفرغ لكتابة مذكراته في كتاب أسماه « الحرب القذرة»، شرح فيه بالتفصيل كيف كان يشارك بنفسه في فرق الموت التي أدارتها أجهزة مخابرات دولته في قتل الأبرياء من النساء والشيوخ والأطفال من مواطني بلده في العديد من القرى والمناطق النائية.. عادل أمين وكيف كانت تأتي أجهزة إعلام السلطة عقب كل عملية إجرامية تنفذها فرق الموت تلك لتنقل للرأي العام من مكان الجريمة أبشع مشاهد القتل والذبح والتنكيل التي لا يمكن أن يرتكبها إنسان فيه ذرة من آدمية أو من رحمة أو ضمير، ليقال بعد ذلك للرأي العام إن الجماعات الجهادية التكفيرية هي التي ارتكبت تلك المجازر الوحشية البشعة. في العراق يتكرر اليوم المشهد نفسه وبصورة وحشية فاقت الوصف، وطالت ملايين العراقيين، فهنالك(400) ألف وثيقة سرية أمريكية جرى تسريبها ليطلع عليها الرأي العام العالمي تتحدث عن مئات الآلاف من الجرائم والانتهاكات والقتل والتعذيب والإبادة الجماعية لشعب يرزح تحت وطأة احتلال غاشم مُتفرعن، وحكومة عميلة مجرمة منغمسة في ممارسة أفظع صنوف القتل والتنكيل بحق مواطنيها المفترض بها حمايتهم! حكومة يقود رئيس وزرائها بنفسه فرق موت مُعدة خصيصاً لذبح الناس بالهوية، وسحلهم وتعذيبهم وامتهان كرامتهم بصورة يندى لها الجبين بلا أدنى ذنب عدا أنهم ليسوا من أبناء طائفته! أين يمكن أن يُمَارس مثل هذا الإجرام إن لم يكن في عالم الخيال أو في بلاد العرب فقط!! ومع ذلك لا يخفى أن ثمة دوافع غير بريئة تقف وراء تلك التسريبات، فالأمريكيون انتهازيون بطبعهم، ولا يُقدّمون خدمات مجانية للغير، وهم لا يكشفون الأسرار ما لم يكن العائد منها مُجدياً ويستحق المجازفة، وقد كشفوا سابقاً عن بعض الوثائق ذات الطابع السري التي قيل بأنها أماطت اللثام عن جانب مهم من علاقة المخابرات الباكستانية بحركة طالبان أفغانستان، وقد أدت تلك التسريبات غرضها وأحرجت الحكومة الباكستانية، ووضعتها تحت ضغوط شديدة كي تقدم مزيداً من التنازلات في مجال التعاون الأمني مع الولاياتالمتحدة، حتى غدت الطائرات الأمريكية بدون طيار تضرب في أي مكان من باكستان دون أخذ الإذن من الحكومة. ويجيء كشف الوثائق الأمريكية الجديدة المتعلقة بالشأن العراقي في ظل تطورات وأحداث على الساحة العراقية والعربية والأمريكية أيضاً، ففي العراق يوشك نوري المالكي- بضغوط إيرانية قوية- أن يفوز بفترة ولاية ثانية لرئاسة الوزراء، ويبدو أن الأمريكيين غير راضين عنه لصلته الوثيقة بنظام طهران الذي لم يكتف باستباحة العراق بل شرع في محاولة احتواء لبنان، ومن المؤكد أن زيارة أحمدي نجاد الأخيرة لهذا البلد أغاضت الأمريكيين كثيراً بما في ذلك عروض إيران للحكومة اللبنانية بتسليح الجيش اللبناني بأحدث الأسلحة الإيرانية، وهو ما يمكن تفسيره بأنه محاولة إيرانية لجذب لبنان إلى الحلف الإيراني السوري الذي يتبنى دعم مشروع المقاومة المتمثل في حزب الله وحركة حماس. وتأسيساً عليه، فالوثائق الأمريكية المسربة بما حوته من معلومات موثقة بشكل يومي كشفت حجم التدخل الإيراني وتغلغله الواسع في العراق، ومسئوليته المباشرة في معظم الجرائم التي ارتكبت بحق العراقيين السنة بدرجة أساسية، وبرغم أن أحداً لا يستطيع أن ينكر تورط إيران في معظم ما يدور داخل العراق، إلاّ أنه لا يمكن التغاضي عن وجود محاولة(خبيثة) مقصودة لتأجيج الصراع الطائفي السني الشيعي انطلاقاً من العراق إلى باقي دول المنطقة، هذا الشحن والتهييج الطائفي قد يكون ذا صلة بمخططات أمريكية قادمة ضد إيران، لكنه على أية حال يرفع من وتيرة العداء السني الشيعي ويُبقيه في أعلى درجاته، ويستثير المشاعر السنية ويُحرضها ويُعبئها ، باعتبار أن العدو في اللحظة التاريخية الراهنة هو الخطر الشيعي الموغل في معادة السنة وليس الأمريكي الذي يحاول إقناعهم بوقوفه إلى جانبهم، وطبقاً للمنطق الأمريكي يتطلب الأمر تكديس ترسانة من الأسلحة الأمريكية في دول المنطقة الموالية تأهباً لأسوأ الاحتمالات، للوقوف في وجه الزحف الشيعي الذي صار فزّاعة لامتصاص الأموال العربية وضخها في الاقتصاد الأمريكي المترنح ليستعيد شيئاً من عافيته بعد الأزمة المالية العالمية. ومن المثير للاهتمام كذلك تسريب تلك الوثائق الأمريكية بما حوته من اتهامات مباشرة ليس لإيران وحدها بل لحزب الله أيضاً في تدريب المليشيات الشيعية العراقية التي أمعنت تقتيلا في العراقيين السنة في الوقت الذي تُكثف إسرائيل من تدريباتها العسكرية لأفضل فرقها المقاتلة على حدود لبنان استعداداً لحرب قادمة مع حزب الله كثر الحديث حولها حتى باتت كأنها وشيكة الوقوع، وفي هذه الحالة فالولاياتالمتحدة وإسرائيل حريصتان على عزل حزب الله عن الشارع العربي الذي أظهر تعاطفه الشديد معه في حرب يونيو 2006م. وفي الشق الأمريكي عمدت الوثائق السرية المسربة للتقليل والتهوين من حجم الجرائم والفظائع التي ارتكبها الجيش الأمريكي بحق الشعب العراقي، بدليل أنها لم تتعرض للأعمال الوحشية للقوات الأمريكية في معارك الفلوجة التي استخدمت فيها أسلحة ومواد سامة محظورة دولياً، فيما ركزت بدرجة رئيسية على الدور الإيراني والمليشيات الشيعية والحكومة العراقية وحزب الله وحتى سوريا، في محاولة لإظهار الولاياتالمتحدة وكأنها غير متورطة بشكل واسع في تلك الجرائم والانتهاكات وبالتالي يصعب ملاحقتها قضائياً، ولتبدو كذلك وكأنها تقف إلى جانب السنة العرب ليس في العراق وحسب بل في كل المنطقة ضد التغول الشيعي المفرط في عداوته للسنة، وكأن أمريكا تحاول أن تُنسينا أنها غزت العراق بتحالف وثيق مع الشيعة في العراق وطهران معاً!! لكن يبدو أن بوصلة المصالح أخذت تشير صوب آخرين هذه المرة. أما الدور الإسرائيلي في العراق والذي لا يخفى على أحد فقد جرى استبعاده تماماً من تلك الوثائق وفقاً لضرورات ومتطلبات التطبيع. وفي الولاياتالمتحدة أيضاً حيث أخذت شعبية الرئيس أوباما في التراجع إلى أدنى مستوياتها، ومع اقتراب موعد الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي وحاجة الديمقراطيين للفوز على خصومهم الجمهوريين، كان لابد من فتح أحد أهم ملفات الجمهوريين الذين ورطوا الجيش الأمريكي في العراق وخسروا فيه آلاف القتلى والجرحى والمعوقين ومليارات الدولارات التي أنهكت الميزانية الأمريكية، كما أن الرئيس أوباما بحاجة لدعم خطته التي وعد بها ناخبيه بشأن تقليص القوات الأمريكية في العراق وصولاً إلى الانسحاب الكامل مع نهاية عام 2011م (مع الاحتفاظ بالطبع بقواعد عسكرية في العراق)، وبالتالي فإن نشر مثل تلك الوثائق يدعم مشروع الانسحاب ويعجل به. ويبدو القاعدة أحد المستفيدين من نشر تلك الوثائق السرية، فهي إلى حد كبير فضحت أولئك الذين يقفون وراء زعزعة الأمن وحملات الإبادة الجماعية للسكان العراقيين، ومن ينفذون التفجيرات في أوساط الناس ويقتلون عشوائياً ويُصّفون مناوئيهم بالهوية، وقد أظهرت الوثائق أن حظ القاعدة قليل من ذلك كله.