فاتحة حب ... أغبط هذا الصباح وهو يحتضنك , مودعاً فيك أخاه المنير, أغبط أنواره وهي تقبل وجهك البهي الحبيب , الذاهب إلى منابع النور والضياء , إلى مهوى الروح , وقبلة القلب. هنيئاً لك , وأنت تقبلُ على مولاك بهذا الإقبال , المستوجب القبول , هنيئاً لك , وأنت تطير إليه , مستدعياً طيران رحماته إليك , وقد قال « وما أتاني يمشي إلا أتيته هرولة « فكيف بك وأنت الآتي إليه طيراناً بقلبٍ يسابقُ شوقه .
بقلبي مِنىْ لكأني معكم الآن , أبلل بالدمع خد الطريق , وأحتضن السماء وكلي هتاف حبيب « لبيك اللهم لبيك « كم بكى صاحبك تلك الليلة جذلاً وهياماً , كانت العبرات فاتحة العبور , كان صوته غير صوته , كان صوت أشجانه وصباباته , صوتُ محبته يتلامع بين السماء والأرض . وكلما بلغ « إن الحمد والنعمة لك والملك , لا شريك لك « أهتزت كل جوارحه هزات إمتلاء , وفاض القلب بدمعٍ حبيب.
« عرفة « و « مزدلفة « مهرجان حبٍ أبيض خلاء بسيط , فقيرٌ , لاشئ غير جُبيِلٍ أو جُبيِلين , تتناثر الأحجار معبرة عن تساهل وتواضع , ونزوع نحو التفلت من السلوكيات الجبلية المعهودة , المتسمة بالتصلب والجمود والقساوة والتعالي وغلظة الطبع , إنه الجبل الداني والصحراء المترامية القصية : رمزان روحيان متصلان يفضي كل منهما إلى الآخر بحب وقرب . الصحراء والجبل القريب , مدى للروح والعقل , مدى محكوم لا يستحيل متاهة, ومرتفعٌ خفيض لايغري بالإنعزال , ولا يوهم بملامسة السماء , ولا يمكن من الطيران بعيداً عن التراب , بيئة الكدح والركض , أرضية الإنعتاق ومنصة الإنطلاق . في هذه المشاعر , وهي جمع مشعر , ما يحيل لعالم الشعور , أداء تعبدي , محمل برمزيات كثيفة , في أمكنة روحانية خالصة , مسكونة بالسر . في هذه الأمكنة , لا مظهريات ولا شكليات , لا قشور تفسد الرؤية , لا أبهة أو فخامة تحجب الجوهر , لاشئ مما تراه في الأمكنة ذات القداسات المخترعة , حيث الإبهار عنصر إثارة مهم لتحريك الروح وتهييج الشعور , وفرض نوع من السطوة , لا شئ من الخارجِ يستحوذ على العقل والقلب ,هي البساطة طريقنا إلى المعنى الكبير . في « عرفه « و « مزدلفة « تلوح عظمة المكان البسيط المكتفي بروحه ومظهره , المكان غير المتكلف , الدال على الكينونة , حيثُ عذرية الظاهر والحفاظ عليها هدف أساس للوصول لعذرية الروح. هنا تبدو البدائية والبداوة , دوال أساسية لحياة البدء , للإنبثاق البدئي , لاستكناه البدايات . هنا المكان البسيط يعبق برائحة أصيلة , هنا تقرأ سرك الكبير , تولد في مكان الولادة , تولد من جديد , من خلال إستعادتك القصة , قصتك أنت , قصة الوحدانية , وتاريخ البشرية الطويل في طريقها إلى الله , هنا ترحل في ذات الطريق , في ذات النهر المتدفق من بعيد , هنا أنت بعض النهر متفجراً من ذات النبع وعائد إليه , هنا الحج طريق القلب , لا يحتاج إلى بهارج , ما يزال على حاله يعج بالرسالات , بالآباء الأنبياء , بالأرواح العظيمة التي تولت بناء الإنسانية , وعلمتنا أن نواصل السير في موكب العظمة . يا الله كم أعترتني مشاعرٌ , وتخطفتني أفكار وخواطر أجلتهن طويلاً , وهذه مواجيد وأشجان , هن بنات هذا الصباح , الذي يشرق بكم على صعيد « عرفة « ويا له من فجرٍ آخر يشرق داخل الروح , تخرجُ فيه لتجد أسرتك الكونية , في مهرجان حبٍ واحدٍ أبيض بلون واحد , وسمتٍ واحد , ووجيب واحد , تجد روحك في كرنفال هيام كبير , تطير كالفراشة , في أفق من الرحمات مخضلٍ بهي , هو يوم « عرفة « استعراضُ محبة في ذات الفضاء , المسكون بخطى القرون المحبة . وفي مزدلفة يفتنك جيِشْان الأرواح ويلوح مشهد أوبةٍ صخاب عرضاً حشْرياً يبعث الروع والرهبة , تقاربُ فيه القيامة وأنت في أقرب مقام . في الحج تتلمس الروح مساقط العافية عبر الأزل تستعيد حجها إلى الله منذ البواكير ترجع قصة أبيها الكبير إبراهيم قصته مع التسليم وصراعه وهو يضع قواعد البناء ويفترعُ الطريق يسمي الطراق « ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين « . في الحج نعيد تمثيل القصة , نستعيد الروح , نلملم المعنى , نؤكد إنتماءنا لذاتِ المد , نؤكد إسلامنا وتسليمنا ,نبرأُ من عقوقنا , نرجمُ ضعفنا ونكوصنا , نذبحُ شكوكنا وظنوننا, نعلن مواصلة افتداءنا لذلك اليقين الكبير , نجدد العهد على السير في ذات الدرب الممتد .
لرفيقي محمد في مقام الحبيب يا محمد هل يذكرك اسمك بشيء وأنت في مقام حبيبك « محمد عليه الصلاة وأزكى السلام»؟ هل يحدثك اسمك بما عليك أن تحدث به من سماك؟ هي المحبة تختار أسماءنا , يسمينا الحب , كي نحمله, كي نكونه , وأنت من سماك ؟ سماك الحبيب الذي منح الحياة اسمها ومعناها , سمتك محبة الرسول الكريم باسمه , حبه أختار اسمك , كي تحمل حبه , وتكون امتداداً له . لا تنس ذلك وأنت تقف بين يديه مسلما بجلال . قل له : أنت سميتني , كي أسمي الحياة بأنوارك , كي أكون محمدي الروح , محمدي الشوق , محمدي القلب والقالب , قل له هذا أنا , محمدٌ , ابنُ سناك وبهاءك , جملتني بإسمك , كي أكون الجميل والأجمل , كي أتوسم الجمال , وأعيشه , وأسمى الوجود بكل ما هو محمود وجميل . قل له ما نسيتك , وكيف ينساك محمد ! قل له : ها أنذا , أجدد العهد , وأؤكد الحب, وأثبت استحقاق كوني محمدا .