تضاربت الأنباء كثيراً بشأن الطردين الملغومين اللذين قيل بأنه عُثر عليهما في كل من دبي وبريطانيا على متن طائرتي شحن كانتا متجهتين إلى الولاياتالمتحدة، لدرجة أن المسئولين الأمريكيين أنفسهم وقعوا في ذلك التضارب، وتناقضت تصريحاتهم مع بعضهم البعض. فمستشار الأمن القومي الأمريكي تحدث عن طردين يحملان متفجرات أرسلا إلى اليمن، فيما أعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي(F.B.I) أن التحقيقات الأولية التي جرت في بريطانيا أظهرت أن العبوة لا تحتوي على متفجرات! وفي حين أكد الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن الطردين كانا يشكلان تهديداً إرهابياً حقيقياً، معلناً تصميم الولاياتالمتحدة على تدمير القاعدة في اليمن، فقد أشار مستشاره للأمن القومي الأمريكي(جون برينان) إلى أن المواد المتفجرة التي عُثر عليها كانت معدة لإلحاق الضرر بأشخاص، وأن هذه الاختبارات لا تستخدم عادة مواد متفجرة صالحة للاستعمال، وبحسب الرئيس الأمريكي نفسه فإن الطردين المشبوهين كانا موجهين إلى أماكن عبادة يهودية في شيكاغو شمال الولاياتالمتحدة بحسب البيانات المسجلة عليهما، وإذا أمعنا النظر في تصريحات الرئيس الأمريكي ومستشاره لشئون الإرهاب فلن نجد فيها ما يشير صراحة إلى أن الأمن القومي الأمريكي كان هو المستهدف من هذه العملية الإرهابية بتلك الطرود الملغومة، بل المستهدفون هم أشخاص في كنيس يهودي، بدليل أن المواد(المتفجرة) المستخدمة في الطردين أعدت لإلحاق الضرر بأشخاص(وليس بطائرات) بحسب جون برينان. لكن لاحقاً قيل بأن المواد المستخدمة في الطردين كانت من نوعية شديدة الانفجار، وأضاف بعض المختصين العسكريين معلومة أخرى بخصوص تلك المواد وهي أن أجهزة الفحص المستخدمة حالياً في معظم مطارات العالم لا تستطيع كشف تلك المواد، وتوجد أجهزة خاصة متطورة لكنها باهظة الثمن ومحدودة التداول هي التي بإمكانها القيام بمثل هذه المهمة الصعبة. وفي حين قال رئيس وزراء بريطانيا " نعتقد أن العبوة صُممت للانفجار في الطائرة" أكد الرئيس صالح أن بلاده لم تتلق تأكيداً قطعياً من الولاياتالمتحدة وبريطانيا أن الطردين المشتبهين يحملان متفجرات، باستثناء احتمالات تلقتها السلطات اليمنية في إطار التواصل القائم. ما يعني أنه لا توجد إلى الآن معلومات مؤكدة ونهائية بأن الطردين المشبوهين كانا عبارة عن عبوتين ناسفتين، وأنهما استهدفا بدرجة أساسية أهدافاً أمريكية. ومع ذلك يظل الغموض سيد الموقف، فتصريحات السلطات الأمنية في لندنودبي تدحض تصريحات الرئيس صالح، فوزيرة الداخلية البريطانية أشارت إلى أن المتفجرات التي ضُبطت داخل الطرد المضبوط في أحد المطارات البريطانية كان بإمكانها إسقاط طائرة، كما أن سلطات الأمن في دبي أعلنت تفكيك عبوة ناسفة وضعت داخل إحدى الطابعات كانت في طريقها إلى الولاياتالمتحدة. وهذه تأكيدات رسمية بوجود تلك العبوات الناسفة التي كانت في طريقها لتنفيذ مهمات محددة على الأراضي الأمريكية! لكن لماذا لم تنفجر العبوات برغم نجاح المخططين للعملية في إيصالها إلى الطائرتين؟ هذا أمر بحاجة إلى مزيد معلومات لفك شفرته!! ومرة أخرى تبدو المعلومات المسربة غير دقيقة لتلقي مزيداً من الغموض على العملية برمتها، ففي الوقت الذي قيل بأن أحد الطردين المشبوهين الذي تم كشفه في لندن كان على متن طائرة تابعة لشركة (يو بي اس) المختصة في مجال الشحن الجوي، ذكرت شبكة CNN الأمريكية أن العبوة اكتشفت على متن طائرة تابعة لشركة النقل الجوي " يونايتد بارسيل سيرفس" توقفت في بريطانيا في طريقها إلى شيكاغو! وفي الشق الاستخباري المتصل بكيفية كشف الطرود لم يخل الأمر من التناقض والغموض، ففي الوقت الذي تحدثت الأنباء عن دور سعودي في كشف الطردين المشبوهين، وهو ما أيده فيما بعد رسالة شكر أمريكية للجانب السعودي على تلك المعلومات التي أنقذت الموقف، إلاّ أن صحيفة الديلي تلغراف البريطانية قالت إن الاستخبارات البريطانية هي التي اكتشفت الطرود بفضل معلومات رفعها أحد عملائها مسئول عن شئون اليمن. أما على الجانب اليمني فالأمر ليس بأقل غرابة، إذ عبر مصدر مسئول- ثاني أيام الحاث مباشرة- عن استغرابه ودهشته من الزج باسم اليمن في هذه القضية، مؤكداً في الوقت ذاته أنه لا يوجد لشركة (يو بي اس) أي طائرات شحن أوغيرها أقلعت أوتقلع من اليمن، كما أنه لا يوجد أي طيران مباشر أو غير مباشر سواءً للركاب أو الشحن من أي من المطارات اليمنية إلى مطارات الولاياتالمتحدة وبريطانيا. لكن اختلف الوضع ثالث أيام الحادث (الأحد) فقد جرى إغلاق مكتبي شركتي فيدكس و(يو بي اس) للشحن الجوي في اليمن بعدما كان المصدر المسئول قد نفى وجود المكتبين في اليمن! وهو تسرع غير مسئول يُذكرنا بتسرع الحكومة ذاته في قضايا أخرى كحادثة تفجير المدمرة الأمريكية (يو اس اس كول) في ميناء عدن في 12 أكتوبر 2000م، وفي حادثة إلقاء قنبلة على السفارة البريطانية في اليوم التالي للحادث مباشرة، إذ في الحاثة الأولى قالت السلطات أن التفجير نجم عن انفجار أحد المحركات داخل السفينة، وفي الحادثة الثانية قالت إن الانفجار داخل السفارة وقع نتيجة انفجار مولد كهرباء، واتضح فيما بعد أن العمليتين نجمتا عن عمل إرهابي مقصود. الإجراءات الحكومية اليمنية لم تتوقف عند حد إغلاق مكتبي الشركتين المذكورتين، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك حين قدمت الدليل المادي على صحة المعلومات القائلة بأن الطردين الملغومين أرسلا بالفعل من اليمن وذلك حين ألقي القبض على فتاة جامعية بكلية الطب اتهمت بأنها مصدر ذلكم الطردين، وكأن الحكومة أرادت بذلك التراجع عن تصريحاتها السابقة والتماهي مع الأجواء الدولية التي باتت تؤكد بأن اليمن صار مصدر تصدير الخوف والقلق والإرهاب للعالم! وهو ما حدث في السابق مع عملية النيجيري عمر الفاروق عبد المطلب، فقد ذهبت الحكومة تؤكد أن المواد المتفجرة(العبوة الناسفة) التي كانت بحوزة هذا الأخير سلمها له المدعو أنور العولقي بعد أن دربه على كيفية إخفائها واستخدامها، وهو ما نفاه العولقي، ونفى بشكل قاطع أن يكون قد التقى بالشاب النيجيري في أي مكان. ومهما يكن الأمر، وأياً كان المخُطط والمعِد لهذه العملية، وسواءً صحّت الواقعة أو كانت مجرد عمل استخباري لصالح هذا الطر أو ذاك، فالمستفيد الأول منها هم الأمريكيون، فالحزب الديمقراطي الذي يحكم أمريكا وينافس خصمه الجمهوري هذه الأيام في انتخابات التجديد النصفية لأعضاء الكونجرس ظهر أمام الناخب الأمريكي أكثر قدرة على إحباط المخططات الإرهابية التي تستهدف أمن الولاياتالمتحدة ومواطنيها قبل وقوعها، عبر علاقات وثيقة مع أجهزة استخبارات في أنحاء العالم، وهذا ربما يعزز من فرص فوز الديمقراطيين أمام الجمهوريين الذين أخفقوا من قبل في فعل الشيء ذاته في أحداث سبتمبر 2001م، وبرغم ذلك، فالجمهوريون لم يقفوا مكتوفي الأيدي بل سعوا من جانبهم إلى توظيف الحدث، إذ عملوا على تحويل الإسلام ذاته إلى قضية انتخابية حاولوا من خلالها كسب تعاطف الناخب الأمريكي والتحريض ضد الإسلام والمسلمين الأمريكيين باعتبارهم باتوا أحد مصادر القلق للمجتمع الأمريكي. في غضون ذلك، وعلى الجانب اليمني، فقد باشرت الحكومة اليمنية من جهتها في توظيف الحدث بطريقتها المعتادة، حيث أعلنت إنهاء حوارها مع أحزاب المشترك وتحميلها مسئولية فشل الحوار وبالتالي تبرير المضي مع أحزاب التحالف الوطني(أحزاب الظل) في الانتخابات النيابية وهو ما كانت تبحث عنه وتحاول إخراجه بطريقة مقبولة على الأقل أمام الخارج، ويأتي هذا الحادث الإرهابي كأحد الفرص الثمينة أمام الحكومة اليمنية التي ترى العالم اليوم أكثر انشغالاً واهتماماً بالإرهاب المصدر من اليمن، ليقتنعوا بأهمية أن يُعطوا هذا الأمر أولوية قصوى على ما عداه من القضايا ذات الصلة بالإصلاحات السياسية والانتخابية التي تطالب بها أحزاب المشترك، فالحكومة تريد الذهاب إلى الانتخابات البرلمانية خشية الوقوع في الفراغ الدستوري، لكنها أيضاً تحرص على إجراء العملية الانتخابية في ظل الوضع الراهن بكل مساوئه، دون إحداث أية إصلاحات حقيقية في المنظومة الانتخابية، وهو ما ناضلت لأجله أحزاب المشترك طيلة الفترة الماضية عبر حوارات مضنية ومرهقة مع الحزب الحاكم، واكتشفت في نهاية المطاف أنها كانت حوارات عبثية لا طائل منها. لكن وبالرغم من مسارعة المؤتمر إلى إعلان مُضيه منفرداً في الانتخابات فإن قراراً مصيرياً كهذا لا يمكن أن يمر بسهولة دون موافقة الأطراف الدولية المعنية بالشأن اليمني وفي مقدمتها مجموعة أصدقاء اليمن الذين نستطيع القول أنهم وضعوا أيديهم بالفعل على الشأن العام في اليمن، وصار بأيدهم تقرير ما يمكن فعله ليس في موضوع الانتخابات وحسب بل وفي كل القضايا الأخرى السياسية منها والاقتصادية، وبدرجة أساسية الأمنية، فإذا كانت مجموعة أصدقاء اليمن مقتنعة بأهمية تمرير الانتخابات اليمنية كيفما اتفق، وكيفما تريدها الحكومة مراعاة للوضع الأمني المقلق في اليمن فربما يتغاضون عن هذا الأمر، لكنهم ربما يحاولون الضغط باتجاه التأجيل مرة أخرى كحل وسط لإرضاء مختلف الأطراف.