في أحد شوارع مدينة التربة في محافظة تعز، حيث يكتظ المكان بقوافل النازحين القادمين بجراحاتهم من مناطق شتى، ويكتظ الزمان بذاكرة جمعية موغلة في الحزن طاعنة في الأسى.. ذاكرة تقع حدودها بين الموت والموت.. وبين الحربِ والحرب.. وفي رصيف متعب جلست فطّوم بنت الثامنة تفرك عينيها، محدّقة بالمارَّة، وكأنّها تتفحص الوجوه باحثة عن وجه ضائع.. فجأة.. تلتفت إلى بائع خضروات مسنّ تستجديه بلكنتها البريئة ولهجتها العدنية أن يمنحها كيلو طماطم على أن تدفع له ثمنه في وقت آجل، فيقابل الرجل طلبها بالرفض متعلّلا بأن ثمة دين سالف لم تدفعه.. شدَّتني مفرداتها المثقلة بالحاجة، وعينيها الذابلتان المفعمتان بأسى شفيف تحاول إخفاءه كي تبدو قوية وغير مكترثة.. غير أن رفض الرجل المتكرّر جعل حديثها ينخفض رويدا رويدا حتى سكتت يائسة، ثم أسندث ظهرها النحيل على باب محل مغلق.. وراحت تقضم أظافرها.. و.. تتفحّص وجوه المارّة. نظر البائع المسن إليَّ وراح يهمس لي بحديث خافت وكأنه لا يريد فطّوم أن تسمعه.. شرحَ لي كيف أنّه لا يكسب كثيرا من وراء هذه المهنة المتعبة.. وأنه لم يعد قادراً على إدانة أحد.. ثم تقدّم إليَّ خطوات وهمس في إذني: وخاصة النازحين.. شدّتني كلمة (النازحين).. وكأنها صاعقة هوت على مسمعي.. وبدون إرادة التفت إلى فطّوم.. تلك القابعة هناك تحدّق في الفراغ، فرأيت حروف هذه الكلمة (المصير) محفورة في كل ملامحها.. في عينيها الغائرتين.. في ملامح وجهها الشاحب.. وفي لغتهها الذليلة التي فرغت للتو من هزيمة ساحقة أمام ذلك الرجل المسن.. اقتربت منها.. وسألتها عن المحل المغلق الذي تجلس على بابه.. فردّت بكلمات متلعثمة تفيد بإغلاق المحل منذ شهور.. منذُ شهور؟؟ إذن فهي هنا تحت مطارق الغربة والشتات منذ شهور.. جلست بجانبها وسألتها عن اسمها، فأخبرتني، وأضافت طواعية بأنها من عدن، وأنها (هربت) مع أسرتها إلى هنا.. قلتُ لها وممَّ هربتم؟ قالت بلغة محتجّة: من الموت.. ألم تسمع بالحرب الدائرة في عدن؟ قلت بلى.. استطردت: لقد هدموا بيتنا، وقُتل أخي الأكبر.. وخرج أبي ولم يعد.. فقررنا القدوم إلى هنا.. يا الله.. كل هذه المصائب يحملها هذا القلب الصغير؟؟ قلت لها: وأين تعيشين الآن؟ ومع من؟ قالت نعيش في إحدى المدارس القريبة هنا أنا وأمي وأخوي الصغيرين.. قلت لها: ولماذا أتيت إلى هنا إلا تخافين من الضياع؟ قالت: أعرف كل شوارع المدينة جيدا.. فأنا أظل أتجوّل فيها طوال اليوم أبحث عن أبي؟ عندي أمل كبير بأنه سيأتي إلينا.. إذا لم يكن اليوم فغدا.. قلت لها: لقد أصبحت عدن الآن محررة فلماذا لا تعودون إليها؟ فقالت مستنكرة: نرجع فين وبيتنا دمّروه؟ نحن هنا عايشين مع ثلاث أسر في فصل واحد.. لو رجعنا عدن باننام في الشارع.. ثم التفتت إليَّ وقالت بلغة واثقة: بايجي لنا بابا وبانرجع كلنا.. وبعدين أبي قوي وعنده فلوس بايقدر يبني البيت أحسن مما كانت.. قلت لها مختبرا مدى ثقتها بعودة أبيها: وهل يعرف أبوك أنكم هنا؟ فانتفضت وكأنها أدركت مغزى سؤالي، وقالت بلهجة حادة: مش ممكن يتركنا أبي، وأني واثقة من أنه يبحث عنا مثل ما نحن نبحث عنه.. وصدّقني إننا بانرجع عدن مع بعض.. كنت أود الاسترسال في حديثي مع فطوم.. وفجأة كان البائع المسن قد أقترب منها ونظر إليها مبتسماً وكأنه يريد أن يكفّر عن رفضه، ثم أعطاها كيسا صغيرا من الطماطم، وقال لها بلهجة حانية: المرة القادمة تعالي يابنتي ومعك فلوس.. فأنا أفقر منكم .. والله العظيم أفقر منكم.. وأن الناس يلتفتوا لكم أكثر مما يلتفتوا لنا.. بس نحن ساكتين على باب الله.. التفتُّ إلى الرجل المسن الذي كان ناقماً على الحال والدموع تجول في عينيه.. فقلت له: اصبر ياحاج إن بعد العسر يسرا.. فقال: الله كريم ياابني.. ثم التفتُّ لإيمان لأتقصّى منها أطراف وجعها الكبير.. فلم أجدها.. فقد انطلقت مسرعة، وغابت هناك وسط الزحام باحثة عن أب ضائع ووطن مهدور.