عبدالوهاب قطران درستُ القانون ثماني سنوات، سهرت لياليها بين دفاتر الشريعة وأصولها، تدرجت من كلية الشريعة والقانون إلى المعهد العالي للقضاء، ثم اعتليت منصة القضاء في صنعاء وبعدها في إب. كنت أؤمن أن القضاء رسالة، لا وظيفة. واجب، لا مكسب. لكنني اصطدمت بالحقيقة المرة: في هذا البلد المنكوب، لا مكان لقاضٍ نزيه، ولا عدالة لضعيف. القضاء هنا كدّ وتعب وهمّ وغمّ لا يجني منه الشرفاء سوى الحسرات. أما من يدبر أمره، فيفتح الأبواب الملتوية ويغمس يديه في المستنقعات، فقد يجد لنفسه مخرجًا… أو مهلكًا. بطبعي أمقت الظلم وأحتقر الرشوة وأشمئز من الاستغلال. أنحاز دومًا للغلابئ والمقهورين والمستضعفين،و للحق والعدل، لذا تيقنت مبكرًا أن المظلوم في هذا الوطن لا يُنصَف، بل يُستهلك. وأن القاضي النزيه في هذه البلاد لا يُكرَّم، بل يُطارد. كل قاضٍ شريف في اليمن مشروع مظلوم ومطارد ومشرّد، هو وأسرته، ما لم يُستقل القضاء استقلالًا حقيقيًا. كان استقلال القضاء حلما قبل ان تنهار بلدنا ودولتنا وتتمزق يمنا الى اشلاء متناثرة تحكمها جماعات المصالح الخاصة لتنفيذ اجندة ومشاريع واطماع خارجية .. ام اليوم فلم يعد لدينا دولة حتى تمكن القضاء من استقلاله! لهذا… عافت نفسي هذا المنصب منذ عقد ونيف، ورفضت بإصرار كل المناصب والعروض، لأني أعرف البئر وغطاءه، وأعرف أن المجرى مسموم. لكن حتى بعد الاعتزال… لم تفكّ لعنة القضاء عني قبضتها. بمجرد أن يعرف أحدهم أنك "قاضٍ"، تنتهي حريتك. تُصادَر خصوصيتك. تصبح مُلكًا عامًا، عليه أن يتدخل، يشفع، يحكم، يكتب، يُوصي، يفتِي… بل مجانًا! أغلق هاتفي أغلب اليوم، هربًا من الاتصالات والوساطات: "اتصل لفلان سجني"، "أوصِّي القاضي يحكم لي"، "كلِّم وكيل النيابة يخرجني"، "افتح لي طريق، ساعدني، اشفع لي، خابر لي...". وإن حاولت شرح أن الشفاعة تضر أكثر مما تنفع، لأن هواتف القضاة مراقبة، وأن أي توصية من قاضٍ سابق مغضوب عليه "العين عليه حمراء "تثير الشبهات والضغوط—فلا أحد يفهم. هذا مجتمع لا يصدق إلا ما يراه مصلحةً له، ولو كان وهمًا. وحين أفتح فيسبوك أو X، أجد سيلًا من الرسائل تطلب "فتاوى قانونية" مجانية! أردّ عليهم بقدر استطاعتي، فالنية طيبة، والناس مغلوبون، وأنا نذرت نفسي لنصرة الضعفاء والمساكين. لكن ثمن هذا النذر كان باهظًا: ضاعت خصوصيتي، ضاع وقتي، ضاعت لحظات صفائي. أريد أن أُقيِّل مع أصدقائي الادباء والشعراء والمثقفين، نتنفس حوارات الفكر والوجدان، فإذا بالمتقاضين يقتحمون مجلسي، يعرضون قضاياهم، يفرشون أوراقهم، يطلبون فتوى عاجلة، ومذكرة فورية، ومشورة قانونية مفصلة… وكل ذلك مقابل علاقيتين قُطل! وبعد أن يُنهي عرضه للقضية، يقول لك: "رد لي الليلة، ضروري، لا تنسى توصي القاضي، أمانة عليك…". وأنت، قد اشتريت لك قاتًا بروليتاريًا لتقيّل ببال مرتاح، وتبعد عن صداع هذا البلد ومشارعيه التي لا تنتهي. لكن أين تذهب؟ من يُنقذ القاضي من لعنة القضاء؟ من يُنقذك من وطن لا يرحم ؟ من حائط الكاتب على فيسبوك