إنها ثورة بكل ما تعينه الكلمة، ثورة شارك فيها الشعب كله، نهض لها الشارع كله، امتزج بها الشعب كله، فسجلت تعريفا حقيقيا وواضحا عن ماهية الثورة. لقد كانت ثورة غطت مساحة مصر كلها، وشدت إليها الوطن العربي كله، ثورة أجبرت الحاكم المستبد على أن يأخذ عصاه ويرحل. لقد رسم زين العابدين بن علي وحسني مبارك طريقين للحاكم العسكري المستبد، فأما بن علي فقد حاول بعد أن (فهم) أن يكرر وعوده السابقة التي ملها الشعب التونسي، لكن الشعب أصر على رحيله، فغادر الرجل بمجرد أن وصلت الثورة إلى قلب العاصمة تونس، وأما حسني مبارك فقد كانت البداية من قلب القاهرة، لكنه كذَّب وعصى، حتى بعد أن وصلت الحشود إلى الملايين، وزعم أنه (يعي) تطلعات الشعب المصري، ومضى يعيد أسطواناته القديمة، لكن الشعب كان قد قرر التغيير. حاول الرجل أن يعاند، فكان الشعب أكثر عنادا وإصرارا، حاول أن يصم أذنيه عن هدير الجماهير المزلزل والتي تطالبه بالرحيل، بدا وكأنه لا يهمه أن تحترق مصر كلها في سبيل أن يبقى هو على الكرسي، لكن الشعب كان واضحا في هديره: الشعب يريد إسقاط النظام، استنجد بقوات الأمن فلم تفلح، استدعى البلاطجة والمتنفذين الذين كان يعتمد عليهم في الحكم بعيدا عن المؤسسات فخابت هي الأخرى وفشلت، فلم يجد من سبيل إلا الرحيل. يقول رجل الشارع إن تعنت مبارك أبرز حسنة لبن علي، لكن الأهم أنهما رسما طريقين للحكام العرب، الذين سيجيء عليهم الدور، ليختار هؤلاء أيا من الطريقين، إما طريقة بن علي السهلة والسريعة وبلا عناد ولا فضائح أكثر، أو أن يختاروا طريقة (مبارك) التي حاول أن يجعلها متسمة بالعناد والاستعصاء والبلطجة، ففقد احترام الجميع في الداخل والخارج، ومع ذلك لم يكن أمامه غير الرحيل. السؤال الذي يطرح نفسه، هل سنجد حاكما عربيا شجاعا ونبيلا يرسم طريقا ثالثا أفضل من طريقي الرحيل السابقتين؟ هل سنجد حاكما يفهم ويعي حقيقة، أكثر من بن علي ومبارك فيرحل راضيا مختارا، فيسجل لنفسه لدى شعبه ولدى الأمة ككل موقفا يكون له رصيدا تاريخيا يلحقه بالمشير عبدالرحمن سوار الذهب، أم أنهم لا يريدون إلا الخروج (بزفة) يسمعها القاصي والداني، وتهتز لها الأمصار والأقطار!