" التغيير" عن " 26 سبتمبر ": في البداية أود التأكيد على أن كل مكون أو جزئية من مكونات هذا التصور قد تكون سبق أن وردت بهذه الصيغة أو تلك أو في هذه الوثيقة أو غيرها من الوثائق المتعددة التي تسعى وتحاول أن تخطط أو تبحث عن حلول أو مخارج للمأزق الاقتصادي الذي نعاني منه حالياً وإن ما اعتبره جديداً وهاماً هو جمعها معا على صورة حزمة متكاملة، كما أن تبنيها وتنفيذها معا وبصورة متكاملة ومتزامنة يمثل شرطاً أساسياً لتحقيق الهدف والغاية منها. كما أود التأكيد على أن معوقات و كوابح الاستثمار والنمو في اليمن أكثر بكثير من القضايا التي سأتحدث عنها في ورقتي هذه، وما اختياري للعدد المحدود منها إلا لاعتبارها القضايا المفاتيح والتي إن عولجت ستقود وبالضرورة إلى معالجة بقية القضايا، فهي في نظري لن توفر البيئة المناسبة للاستثمار والنمو بصورة كاملة ولكنها ستجعل من الاستثمار في اليمن ( مجدياً ) ، وهو الأمر الذي سيدفع بالاستثمارات ذاتها لاستخدام ما تمتلكه من أيدٍ وأرجل، بل ومخالب للمشاركة في إزاحة وتجاوز معيقات و كوابح الاستثمار والنمو الحالية. ترتبط مراحل التحول في التاريخ الاقتصادي التقليدي بطبيعة الطاقة المحركة للاقتصاد، فمن مرحلة الفحم إلى البترول وأخيراً مرحلة الطاقة النووية. وهذا يؤكد أهمية وعمق تأثير الطاقة وطبيعتها على التحولات الاقتصادية. ونحن في اليمن عشنا ومازلنا نعيش مرحلة اقتصادية يغلب عليها الديزل كمصدر للطاقة المحركة، بكل ما يتصف به من ارتفاع في الكلفة ومضار صحية وبيئية وفوق كل ذلك محدودية وبطء طاقته المحركة. الاقتصاد اليمني يعتبر حالياً أسيراً لطبيعة الديزل، الزراعة بشكل عام والقات والفواكه بشكل خاص يمثل ما تستهلكه من ديزل الجزء الأعظم من كلفة إنتاجها. وإذا ما تم احتساب تلك الكلفة بالأسعار العالمية للديزل فإنها تفقد جدوى إنتاجها وتعجز عن المنافسة مع الأسواق المحلية والدولية، وكذلك الصناعة فإنها أيضاً أسيرة لطبيعة الديزل وكلفته، وخصوصاً صناعة الأسمنت والتي تمثل أكثر الصناعات اليمنية وفرة في موادها الخام إلا أنها من أكثر الصناعات استهلاكاً للطاقة، ويأتي فوق ذلك وقبله الماء مصدر الحياة، والأكثر شحة وندرة في اليمن. فاستخراجه ونقله يخضع حالياً لطاقة الديزل، ولا يمكن الحديث عن إنتاج الماء الوفير اللازم للنمو بدون اللجوء إلى عمليات التحلية والتي ستكون بحاجة أكثر إلى طاقة اقتصادية ونظيفة غير الطاقة الناتجة عن الديزل. ومع تضافر عوامل كثيرة تشكل في مجموعها مأزقاً أو تحدياً اقتصادياً لم يسبق لليمن أن عرفه أو عايشه فإن الخروج من هذا المأزق ومواجهة هذا التحدي بحاجة إلى توافر الشروط اللازمة لتحقيق انتقال أو تحول اقتصادي يقود اليمن نحو مرحلة الانتعاش والنمو مستفيداً ومستخدماً بحصافة المعطيات والمتاحات الذاتية؛ الطبيعية الاقتصادية، والاجتماعية. انطلاقاً من هذه المتاحات والمعطيات يمكن الانتقال من مرحلة اقتصاد الديزل بكل سلبياته وكوابحه إلى مرحلة اقتصاد الغاز بكل إيجابياته ومزاياه من حيث كونه مصدراً للطاقة الاقتصادية النظيفة. وإذا كان عنوان وجوهر عملية التحول المقترحة هو الانتقال من اقتصاديات الديزل إلى اقتصاديات الغاز إلا أنه لا بد من توافر الشروط الأساسية التي تمثل المفاتيح لتوافر بقية الشروط اللازمة لتحقيق عملية التحول، هذه أهدافها وغاياتها المتمثلة في التحول نحو الانتعاش وتحقيق النمو والتنمية. ومن أجل إيضاح مكونات عملية التحول ومتطلباتها الأساسية على شكل برنامج تنفيذ فإنني سأتجنب المصطلحات والصيغ الأكاديمية النظرية، وسأفترض بأن عملية التحول هذه بحاجة إلى قطار لقيادة عملية التحول نحو الانتعاش، وأن هذا القطار بحاجة إلى مكونات ثلاثة هي: - العربة التي ستقود القطار. - فك كوابح (فرامل) القطار للانطلاق. - المحطة التي سينطلق منها القطار وسوف أتحدث عن كل منها باختصار على النحو التالي: -العربة التي ستقود القطار: إن تفعيل عملية التحول نحو الانتعاش يتطلب بالضرورة الاختيار الدقيق لمجموعة من المتاحات والاحتياجات الاقتصادية الأكثر تأثيراً وفاعلية في عملية التحول الاقتصادي والتعامل معها بصورة استثنائية وإلزامية بما يجعل منها ما يمكن تسميته بالعربة التي تقود قطار التحول نحو الانتعاش وتقود النمو في مختلف القطاعات الاقتصادية .وتتمثل في استخراج الغاز واستخدامه لتوليد الطاقة الكهربائية الاقتصادية والنظيفة ويمكن تحقيق ذلك من خلال مشروع/مشاريع اقتصادية استراتيجية مشتركة بين كل من الحكومة والقطاع الخاص الدولي والمحلي، يمكن تحديد أهم ملامحه كما يلي. - استخراج الغاز واستخدامه في إنتاج الطاقة الكهربائية الاقتصادية النظيفة (اللازمة لمرحلة الانتعاش الاقتصادي وذلك في حدود 3000 ميجاوات خلال الخمس السنوات القادمة ) ، وفي عملية تحلية المياه و المساهمة في تحريك مختلف الأنشطة الاقتصادية. - يجب أن يعكس تكوين هذا المشروع/المشاريع مبدأ الشراكة المتعددة التنافسية غير الاحتكارية الفاعلة بين الحكومة والقطاع الخاص الدولي والوطني، وأن يحقق بتكوينه مقدمة لإدماج الاقتصاد الوطني بالاقتصاد الدولي والإقليمي. - يجب أن تتوافر للمشروع/المشاريع المعايير الدولية لهذا النوع من المشاريع وبما يقنع رأس المال الدولي المؤهل لنقل التكنولوجيا الحديثة وإدارتها بالمساهمة فيه وبما يؤهله لطرح أسهمه وتداولها في الأسواق المالية الإقليمية والدولية. - فك كوابح (فرامل) القطار للانطلاق: تمثل عملية تراكم المدخرات المالية الخاصة وانسيابيتها بسلاسة وأمان بين المدخرين والمستثمرين أهم العوامل اللازمة لعملية التحول الاقتصادي ولتحقيق أوسع شراكة وطنية في عملية الاستثمار وملكية المشاريع الاقتصادية بين المواطنين ولا يمكن تحقق ذلك إلا من خلال سوق وطنية للأوراق المالية. ولا تقتصر فوائد ومزايا سوق الأوراق المالية على تجميع المدخرات الوطنية وتوجيهها إلى مجالات الاستثمار المناسبة بل إنها الوسيلة الفاعله لجذب مدخرات ورؤوس أموال مستثمرين من خارج اليمن ومن منطقة الخليج بشكل خاص. وفوق كل ذلك فإن سوق الأوراق المالية تقدم حلاً ناجحاً للمعضلة التاريخية التي واجهت حكومات العالم في عملية تحصيل ضرائب الأرباح التجارية. فكما هو معروف لدينا ولدى بقية دول العالم أن تحصيل ضرائب الأرباح التجارية تمثل أكثر مجالات الفساد والإفساد وتحمل في طياتها عوامل الإعاقة والتعقيد أمام المستثمرين وقد توصلت تجارب العالم إلى تجاوز هذه المعضلة من خلال سوق الأوراق المالية. فهذه السوق بطبيعتها يعتمد نجاح الشركات فيها على مدى ما تعلنه هذه الشركات ذاتها عن الأرباح التي حققتها. فالنجاح في سوق الأوراق المالية في حصول الشركات على نصيب أعلى من مدخرات المستثمرين يتطلب بالضرورة أن تعلن هذه الشركات أقصى ما حققته من أرباح وهو عكس ما تقوم به الشركات حالياً بل إن كثيراً من الشركات تلجأ إلى المبالغة في احتساب وإعلان الأرباح التي حققتها. إن إعلان الشركات عن أرباحها بهذه الصورة يجعل عملية دفعها للضريبة المستحقة للدولة عن هذه الأرباح عملية تحصيل حاصل وتعفي مصلحة الضرائب من كل تلك الإجراءات والتعقيدات وتخفف أهم مجال للتهرب الضريبي وأهم مصدر للفساد والإفساد. إلا أن تحقق كل هذه المزايا بحاجة إلى أن تكون الأرباح التي تحققها الشركات من ارتفاع قيمة أسهمها في السوق المالية أعلى من معدل الضريبة الواجب دفعه عن هذه الأرباح. وهذا يتطلب بالضرورة إعادة النظر في معدل ضرائب الأرباح التجارية الحالي والبالغ 35% فبهذا المعدل العالي يجعل الشركات تعزف بل وتقاوم إنشاء سوق مالية مثلما حدث مع نظام تحصيل ضريبة المبيعات التي تم مقاومة تحصيلها بأسلوب يمكن أن يكشف عن سجلات التجار وحساباتهم. ومع أن معدل ضريبة الأرباح التجارية الحالي عالٍ جداً إلا أن المحصل الفعلي حالياً أقل من ذلك بكثير. ولفك كوابح قطار التحول الاقتصادي للانطلاق يتطلب بالضرورة تخفيض معدل الأرباح التجارية إلى مستوى منافس مع المعدل المعمول به في دول الجوار التي حققت انطلاقة اقتصادية ناجحة. إنني أعتقد أن تخفيض معدل ضريبة الأرباح التجارية إلى 15% سيحقق الغاية وسيمكن القطار من الانطلاق كما أنه سيضمن للدولة دخلاً لا يقل إن لم يزد عن دخلها الفعلي الحالي. ولمزيد من الاحتياط والتحوط فيمكن أن يقتصر هذا المعدل الجديد لضريبة الأرباح التجارية على الشركات المسجلة في سوق الأوراق المالية. ويمكنني القول وبثقة عالية أن دخل الدولة من ضرائب الأرباح التجارية بالمعدل الجديد سيزيد عن الدخل الفعلي الحالي بالنسبة للشركات المسجلة في سوق الأوراق المالية ويمكن التأكد من ذلك عملياً من خلال المقارنة بين ما ستدفعه كل شركة بالمعدل الجديد مقارنة بمتوسط ما سبق أن دفعته فعلياً خلال السنوات الثلاث السابقة. - المحطة التي سينطلق منها القطار: لم يعرف التاريخ الاقتصادي المعاصر بلداً شهد تحولاً وانطلاقة اقتصادية في كل أجزاء ذلك البلد في وقت واحد وتمثل التجربة الصينية في مجال المناطق الاقتصادية القائدة لعملية النمو الأكثر وضوحاً ونجاحاً في الوقت الحاضر وتزداد أهمية مبدأ اختيار مناطق اقتصادية محددة للانطلاق في ظل اقتصاديات الشحة في الموارد والإمكانات الأمر الذي يتطلب بالضرورة تركيزها والانطلاق من منطقة محددة تمتاز عن غيرها بتوافر العوامل الطبيعية الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لعملية الانطلاق أفضل من غيرها. ومع التأكيد على أن مبدأ الانطلاق من مناطق اقتصادية محددة لا يعني بأية صورة من الصور حرمان بقية أجزاء الوطن من حقوقها في برامج التنمية المعتادة وإنما هو توجيه وتدخل استثنائي بإرادة ورعاية وإمكانات استثنائية لمنطقة الانطلاقة لتحقيق الهدف الأكبر وهو أن يمتد التأثير الإيجابي لعملية التحول والانطلاق الاقتصادي إلى بقية الوطن وهو مبدأ اعتمدت عليه معظم إن لم نقل كل دول العالم بمختلف توجهاتها الاقتصادية والاجتماعية أثناء مرحلة الانطلاق والتجربة الصينية الاشتراكية الراعية للحقوق الاجتماعية خير دليل على ذلك. كما أن الحديث عن منطقة اقتصادية لا يعني منطقة صناعية، فالمنطقة الاقتصادية أوسع وأشمل من المنطقة الصناعية، والتي يمكن أن تكون جزءاً من مكونات المنطقة الاقتصادية وبإلقاء نظرة على الخارطة اليمنية بحثاً عن المنطقة الأكثر مناسبة لتقوم بدور محطة انطلاق قطار التحول الاقتصادي تبرز أمامنا أكثر من منطقة، إلا أن المقارنة الموضوعية فيما بينها ترجح كفة منطقة (عدن الكبرى) أو رأس المثلث البحري والذي يضم بالإضافة إلى محافظة عدن أجزاء من محافظاتأبين، لحجوتعز. وبتحديد أكثر لهذا المثلث فيمكن القول أن قاعدته تمتد من منطقة شقرة في أبين إلى منطقة المخاء في محافظة تعز وأن رأس هذا المثلث هو مدينة عدن. فهذه المنطقة هي أكثر المناطق اليمنية تأهيلاً للقيام بدور محطة الانطلاق حيث إنها تمثل واجهة اليمن نحو العالم ومركز أو محور الموقع الاستراتيجي العالمي لليمن تتمتع بكثير من المزايا وأهمها: - عدد من الموانئ البحرية والجوية؛ ميناء عدن وميناء الحاويات والمنطقة الحرة ومطار عدن وميناء شقرة وميناء المخاء. - مصافي البريقة. - دلتا وادي أبين ودلتا وداي بنا. - عدد من مصانع الأسمنت . - مطار العند بما يمثله من نواة لمطار تجاري دولي يمكن ربطه بطريق دولي سريع بكل من مدينتي الشعب بالحسوة ومدينة تعز. - ثقافة اجتماعية تعلي من قيمة العمل وتلتزم بالقوانين والنظم السارية. - قيمة تاريخية معنوية عالية تعزز من دور منطقة عدن في التجارة العالمية. - كما أن هذه المنطقة تتوافق مع سنن التاريخ وتجاربه في كل دول وشعوب العالم التي عادة ما تنطلق حضاراتها من واجهاتها البحرية أو من ضفاف انهارها. إن ما ينقص منطقة عدن الكبرى أو رأس المثلث البحري هذا ليستفيد من كل تلك المزايا المذكورة أعلاه هو الطاقة الكهربائية الاقتصادية ( قليلة الكلفة) والماء الوفير ونظام تشغيلهما السلس والفعال وهو ما يمكن تحقيقه من خلال البدء بتجربة شراكة الدولة مع القطاع الخاص في عمليتي انتاج وتوزيع الكهرباء و تحلية الماء في هذه المنطقة. بهذا أكون قد عرضت المكونات الثلاثة اللازمة لانطلاق عملية التحول الاقتصادي ونجاحها وهو عبارة عن برنامج تنفيذي بحاجة إلى إرادة استثنائية وتدخل ورعاية وتمويل استثنائي. *مستشار وزير التخطيط والتعاون الدولي رئيس منتدى التنمية السياسية