قال له: أسميتك ذو يمن، لليمن كلها، لا متعصباً فتستحل، ولا إماماً فتستبد. كان بين المطرقة والسندان. نهب واستبداد، إن سكب الحبوب وباعها في السوق. ابنه البكر، خرج به مبكراً، يوم بلغ السابعة، كان إلى جواره، يساعده في البيع. هرب في العاشرة، اقتربوا منهما. نفذوا بجلدهما، ونفذت الحبوب. لم تنته العاشرة، سجنوا والده، لم يدفع كما يريدون، لا كما يريد السوق. فرح به ثانية، زوجه من رشا، في الرابعة عشر، أصغر منه بسنتين..قال له: - كنت أريد أن أصطحبك معي هذا العام لشراء الحبوب، حتى تتعلم شراؤه، بعد أن تعلمت بيعه، لكني سأعفيك، مازلت عريساً، لم يكتمل الشهر. عقله أكبر من سنه، ذكاؤه الفطري، والسوق صقل ذكاءه، كأنه في الثلاثين. كانت القبائل قد خرجت، يقودها أكابرهم، بكيل من ذي محمد، غربا نحو ملحان، خاف الإمام منهم، إن فشل نهبوا وسلبوا. راضاهم بالمال، وافقوا بالعودة إلى ديارهم..رفع ذو يمن رأسه..قال: - قد تعود القبائل. أطلق والده تنهيدة طويلة، ثم قال: - إذا عادوا، فذلك قدرنا، لو ظللنا نخافهم، في سائر الوقت، لن نخرج من بيوتنا. لم يعد.كما توقع (ذو يمن)، عادت ذو محمد، تريد صنعاء، لكنها لم تدخلها، خافت من الإمام المنصور، اتجهت غربا، صوب تهامة، تنهب وتسلب القرى والمسافرين، لم تكتف بنهب الحبوب والحمير. قتلته وجزت رأسه. علقته على رقبة حمار. كان حماره، وكان حراً بدون حبوب. أنزلت ما كان على ظهره ودفعت به صوب صنعاء. يسابق الريح، تقوده غريزته. غريزة الحمار، تكفيه مرة واحدة، فإذا ذهب من طريق، عاد عليها. لم يدخل من باب اليمن مطرقاً، لم ينهكه التعب، تعب الحبوب. دخل مرفوع الرأس، ورأس صاحبه معلقاً عليه. الحرية، وواحدة منها حرية التعبير، نهق بأعلى صوته، نهقة لم تعرفها صنعاء. كانت كافية لجلب العيون عليه، فكانت على رأسه المعلق. لم تنس القتلة أن ترفق معه قصاصة، كتبوا عليها: - إن كنت إماماً يا منصور على اليمن، فهذا رأس من رؤوس رعيتك نبعثها إليك. كم أنت موهوم. أنت إمام صنعاء، أما خارجها، فلا، مادمنا ننهب، نسلب، ونقتل، فماذا أنت فاعل؟. كلمات استفزت الناس، كانت ساخرة. إمام عليهم يستعبدهم، وخارجها، يقتلونهم، وداخلها، إن جاءوا نهبوها. كان يوماً مشهوداً، خرجت صنعاء عن بكرة أبيها، تهتف أمام قصر الإمام: - الثأر..الثأر يا منصور، أو نثأر منك يا منصور. هتاف لم تعرفه صنعاء، فكان له وقع الصاعقة على الإمام..خرج عليهم وزيره..قائلا: - مولاي يعدكم خيراً، ويعد القتلة شراً، ويطلب حضور ذي يمن لمقابلة مولانا. * * * * شغله الناس عن حزنه، والتفكير في طلب الإمام، حتى إذا كان لوحده، ورشا، كبس عليه الحزن، والتفكير. إن كان للحزن أن يصغر، فلن يصغر فجأة، أمامه زمن طويل حتى يصغر. وإن كان للتفكير أن يتمخض، فالمخاض يحتاج إلى زمن، طال، أم قصر، يقصر عند المشورة، إن كان صاحبها مجرب، وحكيم. لا وقت للتفكير، هي ليلة واحدة، ومستشار واحد، رشا، ورشا غير مجربة، والحكمة لا تأتي إلا بالتجربة، ولو خصت. ولم يستشر والدته، ماتت بعد سفر والده بشهر. الموت أقرب من الحياة، الحياة أطول للأقوياء، مادام المرض، والأوبئة، فلم يعش من أولادها، إلا هو. والسفر طويل، فإن عاد والده بعد شهر، أو أكثر، كتب له عمر جديد، لكنه لم يعد. ولو مات مثل والدته، لن يفجع الناس، اعتادوا، ويفجع القريب، لن يعتاد، وإن أعتاد على البعيد. عصره الحزن، شل عقله. لا يفكر، الحزن أقوى. سمع من يقول: - إن وهبك الإمام مال قارون، فلا تتنازل، نحن معك. لمح بطن رشا، وقفت أمامه حائرة، حيرة فاقد الشيء، تقديم العون، والتجربة. في شهرها الرابع، لم يمهلها، فك الحصار، ورمي البذرة، في ضربة واحدة..قالت(متفائلة، تفاؤل المحتار): - ما بك؟!..سؤال المتفائل، فكان في غير محله، ونظرة المتعجب، فكان في محله للحظات، كانت كافية لأن يشفق عليها، لحظة أن لمح بطنها لمحة ثانية، فيها الأمل، الحياة مادام الأمل..قال (محبطاً) : - سماني أبي (ذو يمن)، كان متفائلاً، تفاؤل بدون سند، فأنا ابن المدينة، بدون عصبية، فأين هي حتى أكون مثل ما قال أبي؟..ردت (متفائلة): - سمعت، بأن الناس قد قالوا، بأنهم معك..نهض من مكانه، ضرب الحائط بيده، وضربها برأسه، ثم قال: - لا تصدقيهم..صمت للحظات، عاد بوجهه، فلم تكن عينه على عينها، كانت على بطنها،..قال: - سوف أسميه، محسن، باسم أبي، وأمَّا أبي، فقد قتل مثل غيره، يعود إلى الحائط، يضربه بعنف، ثم قال : - وهم يحترقون من أجل الإمام، وأطماع أكابرهم، ليس لي إلا خيار واحد، أن أكتب التاريخ تخليداً لأبي، سوف أحفظه، وآخر للإمام سوف يحفظه..خيار، سيجعلني صاحب وجهين، لكنها الضرورة من أجل أن أعيش لأكتب. * * * * كان الإمام، المنصور بن علي، متجهماً، عندما دخل عليه ذو يمن، فلم يرد السلام..بادره: - لم ينقصني إلا أنت، فمن أنت، ومن هم؟.. - نحن الرعايا، وأنت الراعي، وكل راعي مسئول عن رعيته، هكذا قال جدكم الرسول. - وأنتم لا قيمة لكم، لا أخشى جانبكم، أخشى القبائل، إذا أرادت أقامت إمام، أو أقعدت إمام. - فلماذا لا تقيم جيشاً مننا، فتكون الدولة، لا القبيلة، وتعلم القبيلة، وتخرجهم من عصبيتهم إلى المدنيَّة؟..رد (ساخراً) : - تخاطبني هكذا، بسؤال..نسيت من أنت، ومن أنا، والله، لولا طمع بعض العصاة من أولاد عمي، والقبائل، من التفوا حولهم، ومن يطمعون لأنفسهم، لأمرت القبائل وجندي لنهبكم، وتأديبكم..حسناً، فلنسمع أولاً ماذا تريد؟. - أريد أن أكتب التاريخ، تاريخكم، ومن بعدكم..رد (ضاحكاً): - أنت، لا أنت من سلالتنا، ولا من هم بعدنا، وفي هذه السن، لم يفعلها في سنك، من كانوا، ممن ذكرت..أنت! - ولمَ لا تجربني، فقد أحسن والدي تربيتي، والمرء بأصغريه..أطرق مفكراً، للحظات..ثم قال: - حسناً سوف أجربك، فإن أصبت أجزتك وتكون لي، ولمن سيأتي من بعدي. - ويكون لي راتب شهري. - إن أحسنت. - وحراً في الانتقال معك، وإلى المكان الذي أريده بدونك، ومن بعدك. - إن أحسنت. - شكراً يا مولاي. - وماذا ستقول للناس لتهدئتهم؟ - سوف أقول، بأني مولاي قد وعدني بالثأر لأبي، فالثأر ثأره، فقد كان السؤال موجهاً إليه. - وإن لم أثأر. - سوف ينسون. تحركهم عواطفهم. يهتفون، أو يتبادلون الحديث لبرهة من الزمن ثم ينسون. - أحسنت، يا وزير مكنه مما يريد، فمثله، لن يخيب ظننا. يتبع
*صدرت الرواية عن مركز عبادي بصنعاء عام 2009م. تدور أحداث الرواية في القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي. شخصيات الرواية من التاريخ، ونسج خيال الكاتب، أرجو أن تُقرأ كرواية..والمراجع: 1- د. حسين عبد الله العمري ( تأليف). مئة عام من تاريخ اليمن( دار الفكر بدمشق-1985م) 2- الأستاذ/ عبد الله محمد الحبشي ( تحقيق). حوليات يمانية( وزارة الإعلام والثقافة، صنعاء- 1980م) 3- القاضي/ حسين بن أحمد السياغي( تحقيق ). صفحات مجهولة من تاريخ اليمن( مركز الدراسات، صنعاء- 1978م). 4- د. حسين عبد الله العمري( تحقيق ). فترة الفوضى وعودة الأتراك إلى صنعاء ( دار الفكر بدمشق- 1986م ).