- لست خبيثاً، لو كنت كذلك ما ارتضيت لنفسي أن أخلع خمس مرات. - والله لم أجد أخبث منك، وأنت تملك بعد أن تُخلع، وأنت تذكرني بأختي. أجهش بالبكاء.. ذكرت بكاءه أمام الهادي غالب، فعرفت لماذا عفا عنه؟..كان يبكي كما الأطفال. استدر عطفي، فهممت أن أطبطب على كتفه. عدت هممت أن أقول له: الرجال لا تبكي. وعدت، قلت لنفسي: ولماذا لا تبكي الرجال؟ لو تنازلوا عن كبريائهم، الكبرياء الذي جردهم عن إنسانيتهم وبكوا، كان حالنا فضل، ربما رقت قلوبهم. كان حالنا أفضل وحياتنا بدون طمع. الطمع الذي جلب لنا الفوضى، والتعاسة، وهم يتسابقون على المُلك..عدت، هممت أن أقول له: ترتب على كل دعوة قتل نفوس، نهب، وسلب، وإذا كنت تبكي فلماذا لم يعد لك البكاء إنسانيتك؟..كف عن البكاء، كأنه كان ينتظر أن ينتهي ما يدور بذهني..قالت (بصوت متكسر، كسره شظايا البكاء): - ضعفي سر قوتي، قتله ضعفي خوفاً من أن يعود وينازعني على الخلافة..ردت زينب (ساخرة): - كما قلت، لم أجد في حياتي من هو أخبث منك، أردت أن يتأكد ظني. بكيت لتستدر العطف. عفا عنك الهادي غالب، وأنت واقف، فلماذا لا أعفو عنك وأنت على فراش الموت؟..قالت هدى (مطرقة): - وعفا في المرة الثانية..قال (معاتبا): - حتى أنت يا هدى..سوف أصل إليه، دعوني أكمل..خلعت نفسي للمرة الثالثة، نزولاً لرغبة الناس. خلاف الأولى لرغبة عبد الله حسن، والثانية لرغبة محمد يحيى. أردت أن يختار الناس من يريدونه. اختاروا عباس الشهاري. لم يكن ابن عمي. أنا أول من يتنازل بناءً على رغبة الناس، ولو لم يكن ابن عمي. وأنا أول من أنكر ذاته..قالت زينب (مقاطعة): - خبيث وأنت على فراش الموت..أنكرت لتعود..قالت يمن (مجاملة..لم تستطع أن تخفيها عن عينها): - بل أنكر حقنا للدماء..رد (مبتسماً..ابتسامة باهتة): - صدقت يا جدتي أكملتي ما قطعتني عنه عمتي زينب، لكن رغبة الناس كانت الأهم..قلت (كان صبري قد نفذ): - حفظ الله مولاي وأقال عثرته..خلعت نفسك بعد قتل، ونهب، وسلب فلماذا لم تخلع قبل؟..بادرت زينب) : - خُلعت، ولم تخلع..استفزته، نهض جالساً..قال: - وهل تنكرين أن الناس قد طلبت فخلعت..ردت زينب (ضاحكة): -يا خبيث طلبت منك مشفقة عليك. سقط على ظهره كأن زينب قد رمته بصخرة..أجهش بالبكاء، ثم قال (محبطاً، كأنه الأخير): - وهل ستكتبين ما سمعتِ من زينب يا أم فردوس؟ - وهل كانت زينب محقة؟ - دعوني أكمل أحسن..في المرة الرابعة دعوت لنفسي، لقبت نفسي بالمتوكل. أردت في هذه المرة أن أتوكل على الله لتخليص البلاد من المؤيد، والمنصور..إلا أني قد عدت للقبي الحبيب في المرة الخامسة..قالت زينب (ساخرة): - لماذا انتقلت فجأة من الرابعة إلى الخامسة؟..هل أردت أن تهرب من خلع الهادي غالب للمرة الرابعة، وهل أردت أن تهرب من عودتك للمرة الخامسة على ظهر حصان الحيمي ومن خلع الهادي غالب لك وعفوه..أطلقت ضحكة مدوية، ثم واصلت:
- ما كان شعورك وأنت على ظهر حصان الحيمي؟..ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، ثم قال: - الفرح عدت للقبي الحبيب المهدي، ولو إماماً للجمعة وبإذن الله أعود للمرة السادسة..دعوني أنام، وإذا استيقظت رقية دعوها تأتي إلي، وإن كنت نائماً أيقظوني، اشتقت إليها. كشف سر مجيئه، صراخ هدى: رقية ماتت.كان مدوياً، وصدى. أفزع البيت حتى المهدي. دخل إلى غرفتها راجلاً.كانت تحتضنها باكية، ونحن حولها، نبكي لبكائها، وحزناً على رقية. كان مبتسماً. أنسانا حزننا وقوفه إلى جوارنا، ولم تنس فردوس. أمضى أشهراً طويلة ممدداً، يصارع المرض. لا يترك فراشه، وإذا أرادت بطنه أن تترك تركته على الفراش. أبلغه الهادي غالب موافقته على زواج رقية من ذي يمن. لم يطلب رأيه. أراد أن يضعه أمام الأمر الواقع نكاية به. سوف يكون الثمن دخوله صنعاء، إماماً. نكأ فيه جرحين: جرح اللقب، لا يموت إلا بموته، وجرح النسب، لا يسمح بزواج ابنتهم من عامة الناس، أو كبار الناس، إلا إذا وافق النسب. ولهم أن يتزوجوا. لا تنتسب إلى أمها. جرح أشد، ما بعده جرح. لن يموت بموته. والهادي غالب إذا كان صادقاً، كان جرح اللقب أقوى، هزم جرحه الثاني. قتله. قال المهدي (صوته، كان أعلى من بكاء هدى): - هزمت ابن معيض والهادي، وهما في سباق منهك للحصول على مباركة الأتراك. أيهما ستكون له الحظوة. سوف يشتد بموت رقية، وخروج الأتراك من الحديدة. وأنا أفوز باللقب للمرة السادسة. لن يخلعني عنه إلا الموت، فهو من منحنى. اكتبي يا كاتبه ما سمعتيه مني. لم يكمل الكلمة الأخيرة. خر ميتا، جوار رقية. * * * * علي المهدي. الأعجوبة. لم يرد أن يموت، إلا بلقب أهداه الموت، حتى لا يخلعه إلا الموت. لن يغضب إذا خلعه الموت، يخلع الصغير والكبير. العبد والإمام. احترت فيه. لا تأتي بمثله إلا الفوضى، إذا جاز لي أن أختصر الفوضى، كانت علي المهدي. دخلت هدى في نوبة حزن قادتها للاعتكاف في غرفتها، وكراهية زوجها الهادي، وأبيها الميت.كرهت زوجها أقسمت أن لا تعود إليه ولو أمر، إذا أعتلى، إلا جثة هامدة. وكرهت أباها، فكرهت أصلها. أصول فرقت، وضعت الناس في مراتب. زرعت الأحقاد فتقاتلوا فيما بينهم. إذا دخلت عليها، وغيري، تدفن وجهها في مخدتها. وفي اليوم الثلاثين، كما هي، وغيري لا. وعندما اقتربت من الستين يوماً، كانت جاثية على قدمي، تبكي، وهي تقول: - سامحيني وغيري لا. لعلها عرفت، أوشَكَّت بأني قد عرفت حكايتها مع أسعد. كدت أصدق وهي تقترب من المائة يوم، بأنها قد عرفت، أم شكت؟..سألتني فردوس مستغربة..أجبتها بأني سأخبرها فيما بعد. ويمن وزينب، كانت الإجابة واحدة. أيقنت، وهي تقترب من المائتين، بأنها عرفت.. قالت (جاثية): لا أريد رؤية أسعد كرهته لأني كرهت نفسي. لم أناقشها، اكتفيت بقولي: لك ما تريدين. شعرت بعد قولي أنها أحسن. عادت إلى طبيعتها، بالتدريج، بعد رسالة غالب: أعتذر لها. لم يستطع زيارتها بعد موت رقية. لا يستطيع دخول صنعاء. وعدها بأنه سيدخلها قريباً، وبأنه سيعوضها عن تلك الأيام الضائعة. ردت: بأنها لن تعود إليه، وإذا أمر جثة هامدة. استراحت من جرم الخيانة، و ظلم الإمامة. * * * * صنعاء لم تعد عاصمة اليمن. إرادة الفوضى. الفوضى أئمة وقبائل. لها إمامان: إمام الجمعة، محسن المتوكل في بيت سبطان، حصن الدوافع تارة، وتارة أخرى في حزيز. قنع بالخطبة. وإمام للأيام المتبقية من الأسبوع. قال الشاعر القارة: وأمير المؤمنين معيض قد فعل فيها طريق وفريض شاربه قالوا طويل وعريض مجعلي لا اله إلاالله أشهد بأنه مجعلي إذا اعتلى يكاد أن يكسر أضلعي، وإذا أولج لا يتركها تتنفس. لكنها تزخ في نهاية الأمر، أشهد بأنه مُتع الدنيا كلها. وهو مثل شنبه. إذا أعتلى كأني: صنعاء ملك يديه. استطاع أن يلم أشرار المدينة حوله، فأحكم قبضته على المدينة. وأنا الأنثى إذا اعتلى ذابت أنوثتي على صدره وعليه. أنوثتي وهم. إذا عرف مفتاحها ملكني، وإذا عرف مفتاحهم ملكها. دع مفتاح أنوثتي، واقترب من مفتاحهم. مفتاح الأشرار في زمن الفوضى المصالح. ربطهم بالمصالح فسيطر على المدينة. الأشرار في كل زمان ومكان قلة. مفتاحهم في زمن الاستقرار، عندما تكون الدولة دولة، السجن. المجعلي: القوي والجلف، إن أراد أن يخضع الأشرار في زمن الفوضى بالقوة والعنف انفضوا من حوله. لكنه استطاع أن يمنع عن صنعاء القبائل، منع عنها النهب والسلب والقتل إذا دعت الحاجة. أصبحت صنعاء في عهده أفضل. والعملة في عهده جيدة، ومستقرة. (الفاعل لها محسن معيض والمفعول لأجله)، إمام الجمعة. ابن معيض أفرزته الفوضى. عالج فوضى صنعاء علاجا مؤقتا، لن يصمد طويلاً هكذا قالت يمن أصدقها. ما أبعد نظرها!. لم يصل أثره إلى شعوب. لا يفصلها عن صنعاء إلا السور. تجتاز الباب تكون في صنعاء، أو تكون في شعوب. (صاحبها، الدفعي، بقي يشغل أهل صنعاء، ويتبجح، يتشدق في الكلام، ويمنع من تسليم ما تحت يده من أملاك أهل صنعاء، إلا ما تفضل، ويشاغل معيض). صاحبها الأول، قبل الدفعي: دغيش..قال الشاعر القارة: ودغيش المام حق شعوب في كلام جاير وشوع وزوب والمراتب والخيول سنوب عقل تيس لا إله إلا الله الدفعي، كأنه دغيش أو طبع شعوب. ولا قاع اليهود، لم يصله العلاج، العذري، صاحب أرحب يطالب بالقاع. يريد تملكه، إلا أن معيض وقف له بالمرصاد. جدل ونزاع، معيض والجدري، لكنه الجدري أظهر للمتوكل فروض الولاء والطاعة. عرف ما بينهما، فأراد أن يدس السم بالعسل..قالت يمن: - من هو؟..رفعت رأسي. رمقتها، ثم ضجيت بالضحك لكنه خفيف..قالت (مستغربة): - لماذا تضحكين؟ - إذا كتبت كلمة بصوت مسموع. كم أنت عزيزة أناديك فتستجيبي..قالت (بصوت ممدود): - يا لئيمة..ما علينا..اسمعي من تزودك بالأخبار. - كلي آذان صاغية. - قبائل ذي محمد وأخرى راسلت الأتراك..رديت (ضاحكة، شر البلية ما يضحك): - لعل ابن معيض الآن في حيص، بيص. - ولكنك، قلت ذات يوم قريب بأنه يفكر في مراسلتهم. - نعم. - من كانت له صنعاء، كانت له الحظوة عند الأتراك. * * * * بيت يمن أصبح جزاء من التاريخ. أريده هكذا، وإن لم يرد غيري. لابد أن أعود إليه من آن إلى آخر، بيت يمن بمن فيه من بشر وزائرين. من فيه نساء. أرامل أئمة، وأنا زوجة ابن معيض، من يقيم ويقعد. ابن معيض أهم من الإمام. حال بينه وبين اللقب النسب. وحال بين هدى وأسعد النسب. لو كان العكس كانت هدى تزوجت بأسعد. هدى هربت من الحزن إلى العمل. ليس للمرأة إلا عمل البيت. عمل لا ينقطع، مادامت الحاجة. أهمها سد الجوع وستر الجسوم. زينب لا تفارق فردوس. لا يفرق بينهما حتى النوم. في غرفة واحدة، فهدى أبت أن تساعدها من كانت في عمل البيت. أردت أن أعرف ذلك الحديث الذي لا يريد أن ينقطع عن حياتهن مع الإمامين. إمامين متناقضين. لكن العبرة في الخواتم. تتحدث فردوس عن المهدي بمحبة. أعجبها وهو يصعد وينزل. كانت زوجته المفضلة، كانت توافق أن تدسه هي لا هو. زوجاته الأخريات، رفضن، ورفض أن تدسه الجارية. ضحكت حتى أشرقت عيني بالدموع. سألتني يمن (سمعت ضحكتي)..ضحكت مثلي، ثم قالت: - أعرف قصتها مع المهدي، إلا الجارية. زينب تحدثت عن المتوكل، غير مكترثة. لم تحبه ولم تكرهه، أفصحت أخيراً: - كان خطيرا ينزعه ويدسه تحت، قليلاً، بسرعة فائقة، لا تمنحني الفرصة للتخلص..قلت (مازحة): - إذا كنتين أرامل أئمة، فأنا زوجة أمير المؤمنين معيض..ردت يمن (ضاحكة): - وطويل وعريض مجعلي لا إله إلا الله..أطرقت للحظات، ثم قالت: - سبحان من جمع بين أرملتي القاتل والمقتول، وبينهما زوجة عدو الأئمة..لكنه لا يستطيع، إمام جمعة..مازال عالقاً بين أعينهم. يتبع