تطل يوم غد الذكرى ال 44 على النهضة العمانية التي بزغ فجرها في 23 يوليو 1970 عندما تولى السلطان قابوس بن سعيد، مقاليد الحكم في البلاد. ووضع بداية التحول للنهوض بالبلاد التي كانت في أوضاع متخلفة، وانتقل بها إلى واحة للسلام والاستقرار والأمن والأمان، حققت فيها عمان معدلات متقدمة في التنمية البشرية وفق مؤشر التنمية الأممي لعام 2010. توثق الدراسات التاريخية والاقتصادية عن عمان بأنها "تعرضت إلى عملية تحطيم منظم استمر من النصف الثاني للقرن التاسع عشر حتى عام 1970، ساهمت فيه قوى إقليمية ودولية. فحولتها، مع صراعاتها الداخلية، إلى دولة متخلفة عن الركب الحضاري الذي سبقتها إليه دول الجوار الخليجية. كما ساهمت الأوضاع الداخلية السيئة في عزلة عمان وانكفائها. إلا أن الأوضاع بدأت بالتغير مع ظهور النفط ووصول السلطان قابوس بن سعيد إلى الحكم عام 1970، تحدوه رغبة عارمة في الخروج بالبلاد من الحالة التي آلت إليها".(1) وحول الوضع الذي كانت عليها عمان قبل عام 1970، تشير مجلة بلومبيرج الاقتصادية الأمريكية في استطلاع لها نهاية عام 2010 " أن جلالة السلطان قابوس أوجد دولة حديثة قامت على أسس اقتصادية صحيحة بعد أن كانت قبل أربعين عامًا ترزح في غياهب النسيان". وترى المجلة "أن جلالته عندما تولى مقاليد الحكم عام 1970 كان يعلم أن الطريق نحو المستقبل شاق. وقالت إن السلطنة التي كانت محطة استراتيجية في تاريخ المنطقة وملتقى المسارات التجارية البحرية كانت أقل تطورًا بكثير من جاراتها، كما أنها كانت تعاني من اقتصاد غير مستقر ومستويات معيشية متدنية، علاوة على عدم الاستقرار السياسي الاجتماعي وانعدام البنية الاساسية"(2). لقد تمكنت عمان، في فترة وجيزة، من تجاوز كل مظاهر الضعف التي مرت بها، فحققت ذاتها بالوحدة الوطنية أولاً، ثم بوضع أساسات ما عرف بعصر النهضة في سلطنة عمان ثانياً. فقد وضعت عمان بدءاً من عام 1970 على الطريق الصحيح لتنميتها. لذلك جاءت النتائج فوق التوقعات. وقد رافق مسيرة تطويرها حالة من الهدوء – وهي ظاهرة غير مألوفة في بلدان العالم الثالث – مما أمكن تسميته بحق «النهضة الصامتة»(3). التنمية البشرية في عمان: يشير تقرير التنمية البشرية لعمان 2012، إلى أن عمان حققت تقدمًا ملموساً في جميع مجالات التنمية البشرية ولا سيما في مؤشرات بناء رأس المال البشري من صحة وتعليم. وعلى الرغم من الزيادة الملحوظة في نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي للسلطنة، إلا أن التحسن في مؤشرات التنمية كان أسرع، مما يدل على أن النمو الاقتصادي لم يكن الحافز الوحيد لهذا التقدم في عمان. وليس ادل على ذلك مما توصل اليه تقرير التنمية البشرية في العالم 2010 من أن (عمان تعد الدولة الأولى عالميا من حيث التقدم في دليل التنمية البشرية في الفترة من 1970 وحتى 2010 وكذلك في مؤشرات الصحة والتعليم). ووفقاً لمؤشرات التنمية الأساسية حققت عمان لمواطنيها عمر اطول وصحة اأفضل ونسب عالية في الالتحاق بالتعليم، وارتفاع متزايد في نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي. فقد حققت عمان تقدمًا مرموقا في إطالة العمر المتوقع لسكانها وفي جميع المؤشرات المرتبطة به. إذ ارتفع العمر المتوقع عند الولادة من 57،5 سنة في عام 1980 إلى 76،1 سنة في عام 2010. كما انخفض معدل وفيات الرضع في عمان انخفاضاً كبيرًا من 64 لكل ألف في عام 1980 ليصبح 8،7 لكل ألف في عام 2009، وانخفض معدل وفيات الأطفال دون الخامسة خلال الفترة من 2000 الى 2009 (من 22 إلى 14،8 طفل لكل ألف). وبلغ معدل معرفة القراءة والكتابة حسب نتائج تعداد العام 2010 87،8 %، وهو قريب من المعدل المقدر للمنطقة العربية، لكنه أعلى بكثير من المعدل المقدر على مستوى العالم . وحققت عمان نسبة التحاق عالية في التعليم الأساسي (الابتدائي)، بلغت 96 % عام 2009 مقارنة بنسبة 84 % عام 1993. كما بلغ نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي في عام 2010، 25653 دولار وهو مستوى دخل مرتفع بالقياس إلى الدول الواقعة في فئة التنمية البشرية المرتفعة(4). وبلغت قيمة دليل التنمية البشرية في عمان 0.755 في عام 2010 (وفقًا للحسابات الوطنية) مما وضعها ضمن مجموعة الدول مرتفعة التنمية البشرية. وقد ارتفع ترتيبها من ( 89 ) في عام 1997 إلى المرتبة (71) في عام 2001، وفي عام 2010 أصبح ترتيبها (53). ويأتي ترتيب عمان الخامسة بين الدول العربية. وتشهد اليوم عمان نهضة متكاملة في جوانب التنمية المختلفة، يترافق ويتزامن معها جهودها المتواصلة لتعزيز السلام في المنطقة والعالم. سياسة خارجية حكيمة: اختطت عمان سياسة خارجية حكيمة تعتمد السلام منذ النهضة المباركة في عام 1970، وهي انعكاس لسياستها الداخلية، حيث قدمت السلطنة لأول مرة درساً سلميًا وتسامحيًا في تاريخ التطور السياسي للصراعات الداخلية، فمع انتهاء سلسلة الصراعات بين الحكومة واطراف المعارضة في بداية السبعينيات، عملت الحكومة على إدماج كل أطياف المجتمع وشاركتها في بناء نظام الدولة. فالسلام الاجتماعي الداخلي الذي تجسد لحل الصراع المسلح بين أبناء الوطن، واستيعاب الآخر المختلف وفق قواسم وطنية ضمنت العيش الكريم والوئام للجميع والشروع ببناء عمان الحديثة، وإذ بعمان اليوم تجني ثمرة ذلك من أمان وإخاء واستقرار. ولاستمرار النهج السلمي واعتماده خيارًا وطنياً، فقد جسدت الإرادة السياسية هذه التوجه في النظام الأساسي للدولة (دستور البلاد) بعدد من الاسس، حيث أكد النظام الأساسي للسلطنة (الدستور) على أن السلام هدف من أهداف الدولة وركيزة أساسية في بنائها وعلاقاتها، وبهذا الصدد أوردت المادة (14) نصًا واضحًا بأن "السلام هدف الدولة، وسلامة الوطن أمانة في عنق كل مواطن". وأكد النظام كذلك على "توثيق عرى التعاون وتأكيد أواصر الصداقة مع جميع الدول والشعوب على أساس من الاحترام المتبادل، والمصلحة المشتركة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ومراعاة المواثيق والمعاهدات الدولية والأقليمية وقواعد القانون الدولي المعترف بها بصورة عامة وبما يؤدي إلى إشاعة السلام والأمن بين الدول والشعوب" (المادة 10). وتعد هذه الفقرات / المواد من أهم المبادئ السياسية الموجهة لسياسة الدولة الداخلية والخارجية والهادفة بوضوح إلى السلام الداخلي كمسؤولية لكل مواطن، وإلى السلام مع العالم الخارجي كممارسة للحكم وحتى للمواطنين. وعلى الصعيد الدولي عملت السلطنة منذ البداية على إقامة علاقة سلام وصداقة مع الدول الأخرى. فقد انتهجت سياسة حسن الجوار مع الجيران، وحلت المشكلات الخاصة بالحدود، كما عملت على تدعيم علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية، وأقامت علاقات ودية مع دول العالم كافة. وقامت سياسة عمان الخارجية على ثوابت ومبادئ أساسية معروفة تتمثل في مناصرة الحق والعدل والعمل المتواصل مع بقية دول العالم المحبة للسلام وعلى تسوية النزاعات الدولية بطرق الحوار والمفاوضات لكي يعم الأمن والاستقرار على الجميع وتنعم بخيراته كافة شعوب الأرض. واتبعت عمان سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ومراعاة المواثيق والمعاهدات، والالتزام بقواعد القانون الدولي، ودعت إلى نشر ثقافة التسامح والسلام، والتعاون والتفاهم بين جميع الأمم، بهدف التصدي والقضاء على ظاهرتي العنف وعدم الاستقرار. إن هذه السياسة السلمية الحكيمة بالإضافة إلى الخطاب الديني المتزن والمتسامح، جنبت الإنسان العماني وفي مقدمته الشباب، من مظاهر التعصب والتشدد، والانخراط في بؤر العنف وجماعات الإرهاب. وتبين نتائج الأحداث الإرهابية ندرة مشاركة أي إنسان عماني فيها. وبهذه المناسبة، يشرفني أن أتقدم بخالص التهاني للشعب العماني وقيادته السياسية، والتمنيات له بالتقدم والإزدهار. المراجع: 1- ناهد عبد الكريم، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس، في تأسيس الدولة الحديثة في سلطنة عمان من 1970 إلى 1975، ص 1. 2- نقلاً من، أرث النهضة والتطوير، في المشهد العماني 2011 الواقع والتطلعات، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، 2011، ص 15 و ص 16. 3- انظر: ناهد عبد الكريم، مرجع سبق الاشارة اليه، ص 2. 4- انظر للمزيد من التفصيل، تقرير التنمية البشرية عمان 2012، مرجع سبق الإشارة إليه، ص ص 44 -46.