كُنا قد تجاوزنا ومنذُ زمن بعيد جدلية النقاش العقيم حول بعض المصطلحات السياسية فيما إذا كان الأنسب لحكمنا هو النظام الملكي أم النظام الجمهوري. أكثر من خمسة عقود من الزمن هي مقدار المسافة الزمنية التي تفصل بين اليوم الذي طُويت فيه صفحة النظام الملكي وإلى غير رجعة في مقابل فتح صفحة آخرى لتدوين ميلاد عهد جديد هو ما أُطلق عليه بعهد النظام الجمهوري، وبين يومنا هذا الذي عُدنا فيه بعد كل هذا الزمن الطويل إلى مُربعنا الأول الذي أستحضَرَ عنده بعضنا نفس المصطلحات في أيهما أنسب لحكمنا: النظام الملكي أم النظام الجمهوري؟ على طريقة الجدل البيزنطي حول الدجاجة والبيضة. أقول لكل من ينبش في الماضي: توقفوا عن هذا العبث غير المجدي، فلقد تجاوز الزمن وكذا الذاكرة اليمنية هذا النقاش العقيم وإلا لكان لزاماً علينا استحضار أرواح مئات الآلاف من الشهداء ممن أرتقوا إلى بارئهم لنعتذر لهم عن نقاشنا هذا وعن انحطاط تفكيرنا وعن تدني أخلاقنا وانعدام الشعور بانتمائنا لتربة هذا الوطن الذي روي بدماء الكثير منهم حين قدموا أرواحهم رخيصة قرباناً لمبادئ الثورة على طريق إرساء النظام الجمهوري الذي لن نحيد عنه أبداً باعتباره البديل الأمثل لحكم الفرد ولحكم الأسرة معاً. تفكير جماعة أنصار الله أو أية قوة سياسية أو عسكرية أو دينية في إمكانية العودة بهذا البلد إلى ما قبل ثورة سبتمبر 1962م هو بمثابة التفكير بالانتحار الجماعي لأي مكون من هذه المكونات؛ كون النظام الجمهوري واحد من الثوابت الوطنية الذي لا نقاش فيه ولا فصال حوله، إذ ما يجب أن يلتفت إليه كل مواطن ومواطنة في هذا البلد بدلاً من الذهاب إلى هذه المتاهة الجدلية هو للفساد الذي أثخن جراحات الوطن وأثخن جراحات قاطنيه لا أن يلتفتوا لشكل النظام الذي لا علاقة له بمأسي الشعوب أكثر من العلاقة المتصلة بمن يحكم هذه الشعوب من الفاسدين والمفسدين... السؤال الذي يجب أن لا نسقطه من حساباتنا لحظة احتدام نقاشنا حول الوضع المتأزم في البلد هو عمن أوقعنا في هذه الدوامة بعد أن كنا قد شارفنا على الخروج من دوامة ما قبلها؟! لقد مرّ البلد وعلى امتداد أكثر من خمسة عقود من الزمن وبالتحديد منذ ثورة سبتمبر 1962م وحتى ثورة فبراير الفاشلة عام 2011م بأكثر من دوامة كانت أكثرها اتساعا وأكثرها معاناة دوامة الرئيس السابق علي صالح وشركائه في الحكم التي استمرت لحوالي ثلث قرن من الزمن، هذه الدوامة التي قرر الشعب في 11 فبراير 2011م إيقافها والنفاذ منها يوم أن احتشد في كل ساحات وميادين الوطن مطالباً برحيل الحاكم وكل منظومته الحاكمة عن سدة الحكم. في 23 نوفمبر 2011م وقع الحاكم المُطالب بالرحيل من قِبل شعبه في بلاط خادم الحرمين الشريفين بالرياض على التنحي عن الحكم، وفي 21 فبراير 2012م اختار الشعب بمحض ارادته رئيساً جديداً هو المشير عبد ربه منصور هادي هذا الرئيس الذي اُحبط ببطانة وبمنظومة حكم هي ذاتها بطانة ومنظومة الحاكم السابق حين أملت عليه ذلك المبادرة الخليجية التي حرص راعوها على ابقاء هذا البلد في دائرة الصراع وفي دائرة الفوضى وفي دائرة الترنح بحيث لا يقوى على الوقوف على قدميه أو مد رجليه للأمام ولو لخطوة واحدة. من أخطر ما كُبل به الرئيس لإعاقته عن الحركة قيد وأغلال المحاصصة الحزبية في الوزارات وفي قيادات الجيش وأجهزة الأمن وفي الوظيفة العامة، هذه المحاصصة التي قبلت بها أحزاب المشترك خلافاً لما كانت تدعيه زوراً وبهتاناً مناهضتها لحكم الرئيس ووقوفهم مع جماهير الشعب على طريق التغيير واجتثاث الفساد من كل مفاصل أجهزة الدولة. عامان ونصف العام والوطن وأبناءه واقعون في محنة هي الأقسى وفي دوامة هي الأخطر عن سابقاتها في ظل تكشير من كانوا يدعون معارضتهم لنظام صالح عن أنيابهم وفي ظل سباقهم المحموم نحو مواقع السلطة ونحو مكامن الفيد... أكثر من عامين من الفوضى ومن العبث ومن التخريب ومن الإخلال بالأمن ومن الإقصاء لكل من لا ينتسب لأحزاب الفيد وتقاسم الغنائم كان وقتاً كافياً لإفراغ خزينة الدولة من احتياطها النقدي ووقتاً كافياً لبروز قوة جديدة على الأرض هي جماعة أنصار الله ووقتاً كافياً لتذمر الناس وسخطهم على الأوضاع في مقابل مؤازرتهم لجماعة أنصار الله طالما اختارت هذه الجماعة العزف على وتر آلام الشعب وطالما تصدرت المواقف الشعبية بمواجهة آفة الفساد. تحرك جماعة أنصار الله في اتجاه العاصمة ربما جاء في الوقت المناسب بعد أن بلغ السيل الزبى وبعد أن يئس الناس على مختلف توجهاتهم السياسية ومشاربهم الاجتماعية من امكانية الخروج من هذه الدوامة المميتة الواقعين فيها منذ ثلاث سنوات. أياً كانت مئالات هذا الخروج لشوارع العاصمة وأياً كانت نتائجه فإن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: من أفسح المجال لجماعة أنصار الله في أن تتصدر هذا الفعل وهذا المشهد الشعبي وفي أن تتمدد على هذا النحو في عقول الناس وفي وجدانهم بعد أن تمددت جغرافياً حتى العاصمة... أليس تحالف المشترك هو من ساعد على هذا التمدد، وعلى هذا التطور الدراماتيكي المتسارع يوم أن تأمر على ثورة فبراير 2011م مفضلاً مقاعد السلطة ومواقع الثروة على نجاح الثورة وعلى اجتثاث الفساد بكل صوره وأشكاله. أليس حزب الإصلاح هو من أصر على بقاء مشهد الفساد كما هو حين أحتضن كثير من الفاسدين ممن كانوا شركاء في النظام السابق مقدماً إياهم إلى واجهة العمل السياسي والعسكري والوظيفي خلال ال 3 سنوات من عمر الثورة الفاشلة؟ أليس حزب الإصلاح من تصدى لإصلاحات الأخ الرئيس مهدداً إياه من خلال الرموز المشيخية وبقايا النظام العسكرية بإزاحته عن كرسي الرئاسة مدعوماً هذا التهديد بحملات إعلامية رخيصة ومحمومة ومدفوعة الأجر لتشويه صورة الرئيس ِأمام الرأي العام الداخلي والتي كان آخرها ومن أخطرها قبل أسبوع من تحرك أنصار الله في اتجاه العاصمة المطالبة بمحاكمته ومحاكمة وزير دفاعه بتهمة الخيانة العظمى التي لا أدري ما هي وما خلفيتها القانونية إذا ما قورنت بترسيم الحدود من قبل النظام السابق دون استفتاء شعبي؟! أياً كانت مئالات هذا الخروج لشوارع العاصمة فإن السؤال الجوهري الذي يجب ألا يغيب عن بال أي مواطن في هذا الظرف العصيب هو: من أوقعنا في هذه الدوامة الراهنة المستمرة منذ 3 سنوات بعد أن كُنا على وشك الخروج من دوامة صالح في 11 فبراير 2011م. [email protected]