لا شك أن الكثير من جيل الستينات وحتى أواخر الثمانينات من القرن الماضي يتذكرون أن المنهج الدراسي لم يكن وحده الذي نستقي منه العلم, بل كان المدرس يضيف من مخزونه الثقافي الكثير من المعارف، ولم تكن المدرسة بأنشطتها المختلفة من ( صحافة إذاعة ومسرح مدرسي) المكان الوحيد الذي نتزود منها رحيق الثقافة, بل كان هناك من يحمل مشاعل المعرفة الثقافية خارج أسوار المدرسة, وهم المثقفون الذين تجدهم في ميادين الأدب, والصحافة, والسياسة , والاقتصاد, والتربية والتعليم, والجامعات, رغم صعوبة الظروف والأوضاع التي كانت سائدة في ذلك الوقت . كانت موانع السلطة تحاصر المثقف وتكتم أنفاسه , ومع ذلك كان يسهم في تنوير المجتمع, وكان حريصاً على التثقيف الذاتي, كان مضحيا ومخاطر بحياته, وكل هدفه هو فتح عيون ومدارك المواطن وبالذات جيل الشباب من الطلاب وفئة الطبقة المتوسطة من العمال والموظفين باتجاه أبواب الحرية, ومقاومة الاستبداد، والمشاركة السياسية , والدفع بالهمم نحو النهوض أسوة بالدول التي كانت في ذلك الوقت تتهيأ للسير في ركاب التقدم . واستطاع الأديب والشاعر والصحفي من خلال القصيدة الثائرة , والقصة الرمزية , والمقالة والتحليل العميق تشكيل الوعي الإيجابي في بناء الأنسان, ويعززون من هويته الوطنية, وكان المسرح رغم بدائيته يستحضر الكثير من الممارسات السيئة والعادات المتخلفة وينتقدها بأسلوب فني وحسي مؤثر وقوي . ولم كل ذلك لم يكن بالأمر السهل , ففي بعض الأحيان كان الثمن غاليا كلف بعض المثقفين العيش في زنازين السجون السنوات والشهور, ولم يكن للكثير من أولئك المثقفين أي مكاسب مادية سوى القلم والورق، وحتى الصحف والكتب كانوا يتداولون على قراءتها فيما بينهم . وحتى في حالات اختلافاتهم في وجهات النظر وتعدد انتماءاتهم الحزبية السرية, كان يعبرون عن تلك الاختلافات من خلال الجدل الفكري , ولم يصلوا إلى مستوى العنف إلا عندما يكونون على كراسي السلطة . أما اليوم وفي المناخ المفتوح دون حسيب أو رقيب علينا ان نتساءل هل هناك من مثقف يقوم بهذا الدور التنويري المعرفي تجاه المجتمع , وهل استغل المثقف المناخ الديمقراطي في تقديم النافع والمفيد في بناء الإنسان وتنمية وعيه الأخلاقي والثقافي, وفي محاربة الجهل وكل عوامل التخلف . وهل المثقف اليوم مساهم في حل المشاكل والتعقيدات التي يشهدها الوطن ؟ وأين هو اليوم من هموم ومعاناة المواطن؟ . كان المثقف في الفترة الماضية يناضل من خلال تقنيات وإمكانيات محدودة ووسائل بسيطة ( ندوات فكرية , صحافة, إذاعة , مسرح بدائي,) ولكن الجد والاجتهاد، والمنافسة الفكرية, والطموح في الوصول إلى بناء نظام عادل وضامن لحرية التفكير والتعبير والمشاركة بدون قيود أو قمع أو إرهاب فكري, كانت تلك الوسائل والأدوات تودي الدور المطلوب . وعندما بدأ حلم حرية التعبير يتحقق في الساحة اليمنية منذ مطلع التسعينيات سرعان ما ابتعد المسار الثقافي عن طريقه الصحيح والسليم، وانشغل المثقف بالهم السياسي الذي اختزل بالسلطة والمعارضة, وصار المثقف عدو نفسه إلى درجة كيل التهم والتحريض على بعضهم البعض . وحتى من كنا نعتقد أنهم مثقفون في المجالات الأدبية , والإعلامية , والاقتصادية, والأكاديمية, والحقوقية, أقحموا انفسهم بالشأن السياسي إلى درجة أن بعض من هؤلاء يشفقون عليَّ شخصيا عندما يجدونني أهتم في الكثير من مقالاتي لقضايا المياه والبيئة, وبعضهم قال لي: لماذا تغرد خارج السرب, وكان المواطن فقط لازم يصحو وينام ويعيش يومه على السياسة, أعتقد أن مثل هؤلاء أصابهم الغرور, فتعالوا عن المجتمع وانفصلوا عن قضايا واحتياجات وهموم الناس الملحة , وليس لديهم من الأفكار والحلول ( إذا اعتبرنا أنهم مثقفون ) ما يقدمونه للوطن والمواطن . إن انغماس المثقف بالشأن السياسي جعله جزءاً من المشكلة , وعنصراً في حالة الفوضى الذي تعيشها البلاد, لقد وضع نفسه في دائرة الصراع, وأصبح يخوض حربا بالوكالة لأطراف أخرى , فالمثقف لم يعد المعبر عن ضمير الأمة وأفكارها، وهذا ما تسبب في انقطاع أواصر الثقة بينه وبين الشارع . "الثورة"