ليس من الصعب أو المستحيل، أن تسقط مدينة في دولة توجد بها مليشيات أو عناصر مسلحة، خارجة عن النظام والقانون، حتى بعض المدن التي قد لا يتبادر للذهن سقوطها؛ بحكم بعض الظروف الأمنية التي تحيطها، والتي يَظن بعض الناس أنها تحول دون وصول المسلحين إليها، فهي أيضاً تسقط إذا تهيأت لها الظروف المساهمة والفاعلة لسقوطها. في مدينة المكلا، عاصمة محافظة حضرموت كبرى محافظاتجنوباليمن، والمطلة على البحر العربي، فهي عروسه الوحيدة، حدث ما كان يتوقعه فئامٌ من المتابعين للشأن اليمني الملتهب، عشرات من المنتمين لتنظيم القاعدة غزوها بعد منتصف ليل الأربعاء؛ فما أشرق الخميس الثاني من إبريل حتى كانت العاصمة الحضرمية في قبضة من يسمون أنفسهم ب"أنصارالشريعة"! كانت البداية من السجن المركزي الذي يقبع فيه مئات السجناء، تأتي القصة الخبرية تعلمنا بفرار أكثر من(400)سجين، في مقدمتهم شيخ القاعدة باليمن خالد باطرفي، المقبوض عليه منذ أحداث أبين المأساوية عام 2012 ، والتي انتهت بخسارة القاعدة ودمار محافظة أبين. فرار السجناء في اليمن، حدث يتكرر؛ فأحياناً تجده يتم بشكل ميسر وسهل، ولا يحتاج إلى كبير إعداد نظراً لرخاوة الحراسة على السجن أو تواطؤ الحراس، أو هو عمل مبرمج يتم بترتيبات على مستويات عليا لتنفيذ خطة وأجندة معينة غالباً تكون في مصلحة القوى المتنفذة. مدينة المكلا لها عدة منافذ من الشرق والغرب، توجد بها نقاط تفتيش طوال اليوم، والمنطقة العسكرية الثانية في منطقة الريان التي تبعد عن المكلا ب 20كم، ومبنى قيادتها بمنطقة خلف التي تبعد 5كم عن المكلا، ناهيك عن مبان عسكرية داخل المدينة كفيلة في صد أي عدوان يستهدفها، أو تحول دون سقوطها بشكل سريع، في تلك الليلة التاريخية لم يحدث شيء من ذلك؛ بل سقطت عاصمة حضرموت في نصف ليلة، فما أصبح الناس إلا ومدينتهم أسيرة في أيدي مسلحي تنظيم القاعدة!! أو "أبناء حضرموت" كما يفضلون أن يطلق عليهم. قتل عدد من الجنود كانوا على حراسة بعض المؤسسات الحكومية، لقد قاموا بواجبهم في الدفاع عن الممتلكات العامة وعن المال العام، وحاولوا جهدهم أن يصدوا هؤلاء؛ لعل المدد العسكري يأتيهم فيخلصهم من بطش المغيرين المسلحين. لم تتحرك ألوية المنطقة العسكرية وحلقت طائرات الهيلوكبتر في سماء المكلا ، وكأنها تتأكد من تسلّم التنظيم لها!! النهب الذي طال البنوك؛ وفي مقدمتها البنك المركزي، وعدد من المؤسسات الحكومية، وحرق محتويات بعضها كمبنى إذاعة المكلا، وديوان المحافظة والمحكمة والنيابة العامة أفرز حالة من السخط والذهول في آن واحد لدى سكان المدينة التي لم ينم أكثرهم بهناء؛ كيف لا وأصوات الرصاص لم تسكت حتى الصباح؟! اللافت للنظر، أن أتباع تنظيم القاعدة، خالفوا عادتهم في"غزواتهم" على المدن التي يقتحمونها؛ فلم يرفعوا أعلام تنظيمهم حين اقتحموا المكلا، وقال بعض عناصرهم للناس الذين حاوروهم أنهم "أبناء حضرموت" ولا اسم لديهم غير ذلك؛ لا أنصار الشريعة، ولا تنظيم القاعدة! هذا السلوك يمكن تفسيره بأن تنظيم القاعدة حينما رفض مبايعة زعيم تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" والتمسك ببيعة أيمن الظواهري، والخلاف الذي بين التنظيمين أدى بهؤلاء أن يمتنعوا عن رفع العلم الذي هو متشابه بينهما في رسمه وتخطيطه. ثم إنهم آثروا عدم إطلاق اسم تنظيم القاعدة أو أنصار الشريعة على أنفسهم حتى يطمئنوا الناس بأنهم جاءوا بالفعل لحماية حضرموت من استهداف أي مخطط للحوثيين وألوية الرئيس المخلوع. حاول "أبناء حضرموت" إظهار أنفسهم بأنهم شكل آخر غير ما هو موجود في مخيلة الناس بأنهم قتلة، وأصحاب عنف وإرهاب وإرعاب للناس؛ بل يكررون القول للناس: "نحن أبناؤكم، وجئنا لحمايتكم" إلا أنهم في واقع الأمر لم ينجحوا في ذلك؛ نظراً للتراكمات والخلفية المعرفية السابقة عن التنظيم في أذهاب الناس، والأحداث السابقة، والمشاهد المؤلمة التي كان من أبرزها: قتل الجنود والضباط العسكريين الجنوبيين من قبل التنظيم، ولعل مشهد أبين أصبح كابوساً لا ينسى، وتبعه قتل أحد العلماء المخالف لتوجهم والمعلن لمقاطعتهم. والخلاصة ومع مرور الأيام اتضح أن هذه العناصر ليسوا أبناء حضرموت فحسب؛ بل هم أبناء مناطق شتى من اليمن وخارجها إنهم باختصار "تنظيم القاعدة". استطاع عناصر "تنظيم القاعدة" بسط سيطرتهم على المكلا والمدن المجاورة لها كالشحر وغيل باوزير بعدما قام بترحيل جنود المعسكرات والألوية التي تحرس المطار، والميناء، ومنفذ تصدير النفط "الضبة" واستولى على جميع الأسلحة المتوفرة في تلك الأماكن؛ فأصبح هو الحاكم الفعلي في ساحل حضرموت. مجلس علماء أهل السنة والجماعة بساحل حضرموت تعامل معهم بسياسة الأمر الواقع، فقام بمحاورتهم، وإقناعهم بتشكيل مجلس أهلي في ساحل حضرموت يدير شؤون المكلا، ومدن الساحل والعمل على عودة الحياة فيها إلى طبيعتها. وبعد مفاوضات متكررة وافق التنظيم على تسليم المرافق والإدارات الحكومية والميناء والمطار والمعسكرات باستثناء اللواء 27 ميكا بحجة أنهم يريدون البقاء فيه لعدم وجود جيش يحمي حضرموت من هجمات الحوثيين. كما وافقوا على تسليم كميات الآليات والسلاح وسيارات النجدة والشرطة التي تسير عمل اللجنة الأمنية بالمجلس، باستثناء السلاح الخفيف بحجة أنهم لم يجدوا شيئاً منه حيث أن العسكر قاموا ببيعه قبل مغادرتهم المكلا. واعتذروا عن تسليم الأموال التي أخذوها من البنك المركزي فرع المكلا بحجة أنها أتلفت في القصف الذي تعرضوا له في منطقة المسيني بمديرية بروم وميفع. العجيب أن المجلس الأهلي اعتذر عن إكمال مشوار الاستلام حتى يتحصلوا على تفويض من السلطة المحلية؛ إلا أنه واصل مهامه كمجلس أهلي يقوم بدور طوعي في تسيير الحياة اليومية بحجة أن "أبناء حضرموت" أو بالأصح تنظيم القاعدة لا يستطيع القيام بهذه المهمة، ومن الصعب ترك العاصمة حضرموت بلا قيادة بعد مغادرة محافظها باحميد إلى الرياض بجوار رئيس الجمهورية والحكومة. وبعد اختفاء أكثر مجلسها التنفيذي المكون من مديري مكاتب الوزارات والمؤسسات الحكومية. هذا المنحى الجديد أفرز معارضة من قبل قطاع آخر من المخالفين لتشكيلة المجلس الأهلي الذي استند لمجلس علماء أهل السنة والجماعة؛ كمرجعية دينية، وضم من بينه أشخاصاً محسوبين على حزب الإصلاح الإخواني وجماعة الإحسان والحكمة وخصوصاً قيادته؛ فالمعارضون يرون أن هذا الاتجاه في نظرهم حليف لتنظيم القاعدة فكرياً- وإن كان يخالفه في آلية التنفيذ-؛ ولكنهم أقرب من بعض إلا أن المجلس الأهلي رد على الاعتراضات بأنهم يرفضون وجود عناصر تنظيم أبناء حضرموت في المكلا، وضرورة تسليمهم ما في حوزتهم من معسكرات وموانئ ومواقع أمنية، وضرورة خروجهم من المدينة، ويقولون إنهم لا يمثلون أحزابهم ولا جماعتهم، وإنما هم حضارم تطوعوا للحفاظ على حضرموت ،ويدْعون الجميع للتعاون والتضامن لأجل بلوغ هذا الهدف. حالة من القلق تسود مدن ساحل حضرموت؛ ولاسيما ما يتعلق بالاحتياجات المهمة والضرورية التي تمس حياة الناس من موظفين وقطاع خاص؛ فالموظف في هذه المدن مايزال حتى كتابة هذا المقال ينتظر راتب شهر إبريل، والقطاع الخاص ينتظرون عودة دوران عجلة الحياة في حضرموت بعد توقفها بسبب انعدام المشتقات النفطية منذ دخول تنظيم القاعدة، أما الرواتب فهذه معضلة أخرى، يبحث الجميع لحل ناجع لعقدة انعدام السيولة التي لا يستطيع أي طرف ضمان وجودها لاسيما وتنظيم القاعدة جاثم على صدر المكلا، والتنظيم لم يبادر بالتعهد الواضح في ذلك؛ بل لم يستقر على رأي بخصوص طلب المجلس الأهلي منه تسليم ما بحوزته من الأموال التي نهبها من البنك المركزي، وهو لم يوضح صراحة ما إذا بإمكانه تأمين وجود هذه المبالغ الضخمة إذا ماجاءت من أي مصدر سواء من الخارج أم العاصمة صنعاء، ويظل الموظف أو المدير يخشى وجود هذه الأموال في مكتبه، وهو يعلم يقيناً أن لا أمان متوفر على الواقع، فبإمكان أية مجموعة مسلحة تقوم بالإغارة والنهب لهذه الأموال، قس على ذلك ما يتعلق بالمشتقات النفطية التي يصعب وصولها إلى المكلا؛ لعدم توفر الأمان لها حتى توزع لمحطات توزيع الوقود.. الجانب الأمني يظل الهاجس الأقوى في عقول الحضارم الذي أذهلهم السقوط السريع لعاصمة محافظتهم في يد عناصر تنظيم القاعدة، ومع أن المجلس الأهلي من ضمن لجانه اللجنة الأمنية وتضم عددا من القادة العسكريين الحضارم إلا أن تنظيم القاعدة هو المسيطر أمنياً على الواقع!!