لا أقول ربما وإنما قطعاً لم أجد صعوبة في الكتابة كصعوبة اللحظة التي هممت فيها برثاء والدي الراحل الشيخ عبدالعزيز الحبيشي، هذا الأب الذي مهما حاولت ومهما حاول غيري من محبيه إنصافه من خلال تسليط الضوء على أسفاره ومحطات نضاله طوال مشوار حياته الحافلة بالكثير من الأحداث ومن المواقف الوطنية والإنسانية فإني وغيري لن نفِ بحق هذه الهامة والقامة الوطنية السامقة والشامخة كشموخ جبلي بعدان والتعكر، هذا الإنسان الذي ما نظرت إليه يوماً أو تجاذبت معه أطراف الحديث إلا ووجدت فيه ليثاً حتى وإن تبدى لي في هيئة إنسان. في كثير من كتاباتي الصحفية عادةً ما كنت أبحث عن الجديد وعن المثير الذي يمكنني أن أقدمه للقراء حتى في إطار الحدث الواحد، كنت أبحث دائماً عن اللغز الذي يبحث القارئ عن حله وفك شفراته في الوقت الذي كان يقفز عليه كثيرٌ من الكُتاب، لذلك أتوقع أن كل ما سيُكتب في مرثيات شيخنا الراحل في أربعينات رحيله سيتمحور في محطات نضالاته ومواقفه الوطنية والإنسانية، هذه الأسفار وهذه المحطات ربما جميعها محفورةً في ذاكرتي ولربما في الذاكرة الجمعية لأبناء مدينة إب بالذات.... ما لم تختزنه ذاكرتي وذاكرة الكثير من أبناء هذه المدينة لاسيما جيل ما بعد ثورة سبتمبر 1962م هي لحظة سطوع نجم شيخنا الراحل في خمسينيات القرن الماضي هذه اللحظة التي حرصت على البحث عنها كونها تمثل البداية لبروز مثل هذه الشخصية نادرة التكرار. في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي واستناداً إلى كثير من الرواة من أصدقاء الشيخ الراحل ممن ما زالوا على قيد الحياة، قدِم الشاب عبدالعزيز الحبيشي من عزلة ميتم في ضواحي إب الجنوبية إلى مدينة إب طلباً للعلم دون اصطحابه لحظتها للقب المشيخ ودون وجاهة ودون ثقل شعبي. بعد مرور سنوات قليلة على مكوث شيخنا الراحل في المدينة كان خلالها قد أقام الكثير من العلاقات بحكم دماثة أخلاقه وعذوبة حديثه ورجاحة عقله وسهولة معاشرته تعرض أحد شباب المدينة الذي كان يمتلك مقهاً لشرب الشاي وكان يدعى/ حسن جواس لنكبة مالية حين عجز عن سداد 40 ريال فرنس لدائنه/ عبدالكريم حيدر الذي كان يمول الشاب المنكوب بالشاي والسكر من عدن، ولأنه كان المقهى الأبرز ولربما الوحيد في المدينة، ناهيك عن كون المكان ملتقاً للشباب المتطلع يومها بعد منتصف الخمسينات عن حياةٍ حرةٍ وكريمة فقد هب كل من له القدرة على المساعدة إلى التبرع لإخراج هذا الشاب من محنته وللإبقاء على هذا المقهى مكاناً للالتقاء والترفيه عن النفس. تبرعات كثير من الوجاهات وكثير من الميسورين كانت لا تتعدى الربع ريال بينما المستورين من الناس كانوا يقدمون ما هو أقل من هذا المبلغ، المفاجأة في هذا المشهد الإنساني هو ما قدمه الشاب اليافع القادم من ريف إب حين وضع تحويشة أسرته التي ادخرتها لتعليمه في المدينة وهي خمسة ريالات دفعة واحدة بين يدي الشاب المنكوب، هذه المبادرة بشهادة الكثير غيرت من موازين القوى الاجتماعية حين دفعت بشيخنا الراحل آنذاك إلى واجهة الحياة الاجتماعية وإلى موقع المسؤولية ليس لحجم المال الذي قدمه فحسب وإنما لصدق النوايا وللإيثار الذي أبداه تجاه محنة منكوب كهذا. خبرني صديقاً للشيخ أن هذه اللفتة الإنسانية التي قام بها شيخنا الراحل دفعت بالكثير من أصدقائه وممن هم في محيطه لأن يطلقوا عليه لقب (المشيخ) عن جدارة واستحقاق -بعد أن أثبت أنه شيخ عونٍ ونضالٍ وطني لا شيخ هبرٍ أو غنيمة- وأن يلتفوا حوله وينصتوا لحديثه ويثقوا بمشوراته وبمواقفه النضالية التي تجسدت بتصدره للمظاهرة الشبابية في مدينة إب عام 1959م تأييداً لإعلان الوحدة بين مصر وسوريا والتي دفع شيخنا وكثيرٌ من شباب المدينة المشاركين في التأييد ثمناً باهظاً حين زُج بهم في سجن الرادع بصنعاء من قِبل الإمام أحمد ليتشربوا في هذا السجن العتيق معنى النضال ومعنى التضحية التي تُوجت بثورة سبتمبر 1962م التي كان للشيخ ولكل شباب إب الأحرار الدور البارز في تأييدها وفي إسنادها وفي التضحية من أجل نجاحها واستمرارها. كل من عرف شيخنا الراحل أو جالسه أو حادثه سيستشف حتماً منسوب ذكائه الشديد من خلال قدرته على الطرح ومن خلال قدرته أيضاً على الصمت كلما أراد ذلك. ما كان يقلقني إن لم أقل يفزعني حين أكون في مقيله هو صمته المُطبق لاسيما خلال الأحداث المزلزلة في البلد، هذا الصمت الذي كان يوحي لي أنه في حالة توثب لفعل شيء أو في حالة ترقب لحدوث شيء ما.. ما كنت أستشفه من وراء صمت هذا الليث المُطبق ومن تجهمه طوال الوقت خلال الأحداث المريرة التي يعشها البلد قبل رحيله هو أنه كان يبحلق في سنوات ثورة سبتمبر فيما كان يسترجع كثيرٌ من التضحيات وكثيرٌ من الأحلام التي تبخرت في غمضة عين بعد خمسة عقود من ثورة سبتمبر الخالدة. مرة أخرى أقول إنها المرة الوحيدة التي شعرت عندها بصعوبة الكتابة طالما يتعلق الأمر برثاء شخصيةٍ هي غير عادية على الإطلاق إذ لربما سيمضي زمنٌ طويل دون أن تتكرر خلاله مثل هذه الشخصية ومثل هذه الهامة والقامة الوطنية والنضالية السامقة... إنها المرة الوحيدة التي عجزت عندها عن الكتابة ربما لكوني لا زلت حتى اللحظة لا أرى في سكن شيخنا الراحل الواقع في ربوة المنظر المطلة من جهة الشمال على سحول بن ناجي وعلى مدينة إب من الجنوب والشرق غير على أنه مجرد عرينٍ لليثٍ توثب فيه على امتداد عقودٍ من الزمن كان يتبدى للناس خلال كل تلك العقود في هيئة إنسان. لا أخفي كل من سيقرأ مرثيتي هذه أني ما زلت على اعتقادٍ أن ليثنا لم يبرح عرينه حتى هذه اللحظة، لقد غادره بجسده بينما روحه الجادة والوثابة والمرحة والمعطاءة لا زالت تحوم في كل زواياه ودهاليزه وأرجائه حتى هذه اللحظة ولربما إلى ما هو أبعد بكثير من هذه اللحظة. [email protected]