مثلما تبدأ السور بالبسملة، كانت سير الأبطال بدايتها وافتتاحيتها هي (عدن)، لأن عدن -حينذاك- كانت بسملة أسفار النضال وغرة آياته، وقد كانت وجهة الحالمين بالحياة الكريمة، وقبلة التواقين للحرية، وقد بلغ ألقها ذروته مع أضواء ثورة 23 يوليو 1952م المشرقة، في ذلك العصر الذي استيقظ فيه التاريخ مذهولا، وهو يتساءل عمن يكون ذلك الملهم الذي يدعى جمال عبدالناصر، ليقرر بعدها أن تشرق صباحاته الزاهية من هناك من قاهرة المعز، من عاصمة عبدالناصر دون غيرها... لهذا كانت عدن -تحديدا- وجهة الطفل عيسى، حين غادر قريته (في قدس) صوبها، في رحلة تعد بالنسبة لطفل صغير مثله رحلة بلا أفق، أو بافق لا نهاية واضحة لمعالمه، وقد كان رحيله مرا وشديد القسوة على قلبي والديه، لكنهما استسلما لقدرهما مكرهين، فقد كان قدر أغلب #الفقراء حينها، ورغما عنهما شيعا طفلهما الصغير بحرقة وأسى، وتركا لعيونهما مجالا للسباحة وسط برك تفيض بالدموع الساخنة، وهما يتمتما بعبارات الوداع التي كانت تختنق وسط غصة حلقيهما، فتصدر منهما وكأنها حشرجة محتضر في لحظاته الأخيرة، وبدا من مشاعرهما تلك، وكأنه جندي مبتدئ كتب عليه أن يخوض معركته الأولى قبل الأوان، معركة صعبة قد لا يعود منها سالما، ومع ذلك -وبحزن العالم كله- تركاه يغادر، ويكمل رحلته نحو المجهول... قد يكون التاريخ لازال محل شك في نزاهته تجاه أولئك الخالدين من الطلائع الثورية اليمنية التي صنعت ببطولاتها الفذة جسورا بين زمنين، لكن عدن لا تنسى فرسانها، وتؤرخ لأمجادهم، ولا شك بأن كل ذرة رمل فيها تشهد بأن ذلك الطفل الذي كان قدومه إليها مثل قشة قذفتها الرياح العاصفة وسط بحر هائج، قد تحول بعدها إلى قالب من العناد، وكتلة من الاصرار والتحدي تمشي على قدمين، هما قدمي ذلك الطفل الفقير البائس، وبشكل أدق فقد تحول إلى مارد... كان طفلا، لكنه كان متأخرا عن الالتحاق بالتعليم بعدة سنوات عن أقرانه، لحيث أنه من مواليد العام 1943م، فمنحته عدن فرصة للبقاء فيها، أو لنقل هامش للمحاولة قد يمكنه من ادراك ما فاته من تعليم، ولكن بشروط قاسية، شروط مجحفة بحق طفل حول العاشرة عمرا، فكان عليه أن يكسب قوته من ربحه البسيط في بيع الماء للمارة، وقد كان اختيارا أو اختبارا ظالما، فذلك يحتم على ساقيه النحيلتين حمله طوال ساعات الصباح والظهيرة الملتهبة واقفا عليهما، أو على أرض ملتهبة تحتهما بالأصح، لأن رزقه كان مرتبطا بوجوده في أوقات ذروة الحرارة وأماكن الازدحام، أي أنه كان مضطرا لكسب قوته بالوقوف داخل فرن، فرن لا يرحم، وبدأت عدن تصهر طفولته البريئة في جحيم شموسها... عندما أتذكر حياة جمال عبدالناصر أو ابراهيم إبراهيم الحمدي قبل بلوغهما مبلغ الرجال، فقد حظيا بحياة مستقرة، ثم بالمقارنة مع حياة عيسى محمدسيف فإنهما عاشا حياة تعد قطعة من الجنة ذاتها، وهذا ما يمنح ذلك الفتى نقطة تفوق عند وضع المقارنات المنطقية، فطفل مثله، وبظروف كتلك لم يكن ليأمل بأكثر من العودة للاسترخاء بعد ساعات عمل شاقة، وإن تجاوز وشطح فلن يحلم بأبعد من الثراء يوما ما، للانتقام من سنوات الفقر اللعين، لكنه كان نوعا نادرا، طرازا فريدا، صنفا فاخرا، ولابد أن كل من راه قد علم أن الفتى قد أتخذ قراره، واختار أن يكون مقاتلا، مقاتلا عنيدا لا يقهر... يتبع....