روائح الموت.. والبارود المتصاعد.. وحشة تجتاح كيانك ورعب يسكن قلبك، منطقة هجرها سكانها.. لم تعد تسمع لضجيجهم صوتا، أو لضحكات الأطفال أو ألعابهم، حركة أو همسا في كل زاوية ترى الخوف يختبئ خلف كل جدار بيت، وحتى في عيون من تبقى من ساكنيها قطعت بهم الأسباب، واللجوء إلى الهلاك هو خيارهم.. الحصبة، لم أتخيل يوما أن تكون تلك المنطقة الحية ساحة مواجهات عنيفة.. وساحة حرب دمرت حياة الناس وبيوتهم ومصالحهم، خلت من سكانها، وحل الخوف والرعب على الأطلال والمنازل.. رأينا ذلك أثناء تجوالنا بين أحيائها.. سكون حتى الموت، تهزك بين الفينة والأخرى أصوات رصاص متقطع في جهة ما وكأنها تعزف لحن الدمار والموت، أو كأنما تقول للزائر الداخل والخارج منها مفقود ولا لغة هنا إلا لغة الحرب.. المحرقة.. دخلنا بداية من أمام وزارة الصناعة ونحن متوجسين خوفا، أشار دليلنا علي سيلان أحد شباب الحارة في الحصبة والذي تضرر منزله أيضا وكذا بيوت عديدة أصابتها الرصاصات وأحرق البعض منها، كما أشار إلى إمكان وجود جثث، كل شيء هناك كان يحكي قسوة تلك المواجهات وبشاعة الجرائم التي ارتكبت في حقهم، توقف قليلا وأنا أمامه في بوابة أحد المحلات، أطلق الرصاص حتى الطير لم يسلم من عدوانهم، وبعض الحيوانات التي سويت بالتراب.. تحدث على سيلان بقوله كل شيء هنا محاط باليأس والخوف لا توجد حتى خدمات أساسية، أكثر المواطنين هنا فروا بأرواحهم فلا يوجد ما يقتاتون عليه، نهبت محال تجارية وخسر الكثيرون مصدر رزقهم، بيوت حرقت وهدمت وأصحابها ظلوا طوال أعمارهم يشقون حتى شيدوها، كل ذلك ضاع في لحظة، الطرقات امتلأت بالجثث كلما حاولنا أن نقترب منها تصيبنا رصاص القناصة، بعض الذين بقوا ليحافظوا على منازلهم نالتهم المحرقة.. وإذا دخلنا لبيوتنا نتخفى بصعوبة متوقعين الموت في أي لحظة.. أصحاب الدولة لم يكونوا يفرقون بين مواطن ومن هو من أصحاب الشيخ ضرب عشوائي وقنص متعمد قتلوا العديد.. بالنسبة لبيت الشيخ يقول علي: نحن جاورناهم 35 سنة لم نر منهم شيئا كانوا يساعدون أهل الحارة وخاصة في المناسبات، والآن يحافظون على ممتلكاتنا وإن حصل من بعض الأفراد تجاوزات، ولكن الشيخ هاشم أخرجهم وأبدلهم بأشخاص آخرين، بيننا وبينهم كل حب واحترام. دخلنا أكثر إلى حارة صدر الشمس والتي حصل فيها أكثر من مواجهة وجدنا عددا من حراس الشيخ ومن أهل الحارة المسلحين الذين يحمون بيوتهم التفوا علينا وبدأ كل شخص يحكي لنا ما أصابه، بعدها أشار أحد المشايخ لحمايتنا والذهاب إلى أي مكان نريده. حكى لنا سكان تلك المنطقة عن الشاب عبدالله القاهلي الذي قتل أمام منزل جاره وهو يحاول الهرب من تلك القذائف التي نزلت بجانب باب جاره.. عبدالله القاهلي رجل فقير جدا يعول أسرة كبيرة ولديه ابنه الأكبر معاق ترك عبدالله أسرته ورحل.. ورجعت أسرته إلى منطقتهم دون عائل ولا حتى مصدر رزق.. تفاجأنا بعائلة ظلت من أول المواجهات في منزلها رغم الخطر الكبير، عائلة فواز عوض السوادي، سألتهم ما أبقاك أنت وطفليك وزوجتك، فتحدث بيأس قائلا: هربنا من حرب صعدة والدمار هناك إلى هنا لنواجه الموت مرة أخرى، ليس لدينا مأوى غير هذا المكان أين أذهب أنا وطفلي، الموت بيد الله وليس لدينا غير الدعاء.. طفليه خطاب ودعاء قالا ما نخاف إلا من الله، ولكن وجهيهما يحكيان ليال مرعبة تعايشوا معها تحت طائلة "مجبر أخاك لا بطل". الطفل خطاب كان كل يوم يجمع بقايا القذائف والرصاص ليلعب بها أعطى علي القرشي كيسا مليء منها، وقال له هذه ألعابي هنا فلم يعد هناك أطفال ألعب معهم واختفت ضحكاتهم من الحارة.. تحدث أيضا سكان الحارة عن وجود قذائف عديدة لم تنفجر في تلك المنطقة ودلونا على مكان أحدها حيث كانت مغروسة في شارع حارتهم وقمنا بتصويرها، كما دلونا على بيت دخلت إليه قذيفة كبيرة في وسط المنزل فهدمته ولكنها أيضا لم تنفجر.. يقول عرفات مكرم: 13 يوم ونحن بدون كهرباء حتى خزانات المياه ثقبت لم يتركوا شيئا إلا وحطموه.. وأضاف فتح سالم: أن منزله هدم وقصف بشدة وقد هرب أسرته منذ الأيام الأولى للقصف.. التقينا أيضا بأسرة أم عبدالناصر، كان أثاثهم متناثرا في واجهة الباب، وبعيون خائفة تحدثت أم عبدالناصر بقولها: هربنا اليوم الثاني وتركنا أشياءنا هنا، أولادي مشردين في البلاد، نريد أن نرجع لم نقدر، تسمعين ما زال ضرب الرصاص موجود، لم نقدر الذهاب لمنطقتنا الحالة متعبة أين نذهب لا غاز ولا كهرباء ولا ماء ولا شيء حتى حاولنا أن نذهب بأشيائنا لم يرض أحد الدخول إلى المنطقة، بعدها أخذتني إلى بعض الغرف وأرتني بعض الدمار الذي أصاب المنزل.. أم خطاب تحدثت عن الوضع الإنساني في تلك المنطقة بقولها: لما كنا نسمع الضرب والانفجارات كنا نرتجف خوفا، أفرش لي ولأولادي فرشا واحدا وأنام أنا وهم، وأقول إن جاء الموت يأتينا كلنا حتى لا ييتم أولادي.. الحمد الله هذا نصيبنا هربنا من حرب صعدة إلى هنا.. إذا خرج زوجي يبحث لنا عن طعام أو أي شيء أموت خوفا حتى يرجع.. عبدالله السري من سكان الحارة الذين أصابهم الضرر الشديد تحدث عن عبدالله القاهلي أنه من الناس الأشد فقرا كما قادنا إلى بيت الطفل فكري الحضرمي الذي قتل في غرفته ورأينا البيت الذي أصابه ضرر كبير وما زالت جثة عبدالله موجودة في المشفى لعدم قدرة أسرته إخراجها.. خسر عبدالله السري عمله أخرج زوجته إلى مكان آخر فهو ما يزال متزوج حديثا. موت.. مرتقب مررنا على معظم بيوت الحارة فما كان بيت إلا وأصابته على الأقل بعض الرصاص، فقط الرياح كانت تلعب بستائر بعض المنازل ولا يوجد داخلها غير السكون، رأينا عمارة كبيرة على بعد أمتار عنا قال السكان إن بداخلها قناصة- من أفراد النجدة- يطلقون النار على الناس ونهبوهم، وابتعدنا حتى لا تصيبنا بعض رصاصاتهم الطائشة.. وكلما مشينا خطوات سمعنا إطلاق الرصاص، توجهنا إلى مسجد قريب قتل فيه أحد الأطفال في المحراب "مروان خالد العياش" يقول شاهد العيان عصام يحيى صالح: كنا جالسين جانب الفرن سمعنا صوت الدانة ورأينا مروان يجري وهو يحتضن يديه ارتمى أمامنا ورأينا الدماء تسيل منه، لا نعلم إن كانت طلقة أو شظايا أصيب بها داخل المسجد.. وأضاف بيتي دخلت إليه 18قذيفة فلا نستطيع الدخول ولا الخروج وحتى لا توجد أي خدمات.. عيشة بائسة، خوفوا أطفالنا، في البداية كنا نقول لهم عرس لما نسمع الانفجارات، ولكن لما زادت لم يفد الكذب في شيء. لم يعد هناك أمان.. الحاج علي يوسف عياش إمام مسجد القشيبي والذي قتل حفيده تحدث قائلا: نحن نحب الشهادة واستشهد مروان ودمه ما يزال داخل المسجد الحمد الله، ووصف وضعهم بقوله: نحن محاصرين هنا كأننا في غزة، ساحة معركة لا نمتلك أي شيء لا نعرف ما هي البداية أو النهاية وليس لدينا أي معلومة، نحن بيد الله ولا نبرح أماكننا، والقذائف تمشي فوق رؤوسنا.. قتل أشخاص هنا لم نستطع إسعافهم فمن رفع رأسه قليلا اقتنصوه، تعفنت الجثث حتى أخذها الهلال الأحمر أو يتم إسعافها بأطقم الشيخ.. وأضاف معمر يحيى أحمد بقوله: فجيعة هنا لا نجد حتى الأكل، نزح أكثر الأهالي من الخوف، محالات تجارية كاملة نهبت وسرق رزق الناس الأمن والنجدة.. علي أحمد العبسي أخذنا إلى منزله المكون من طابقين رأينا الشقوق التي أصابته والخراب الكامل داخل غرفه، كل شيء محطم وأثاث المنزل مبعثر في كل مكان، يقول وهو يشير إلى مصحفه، جلست هنا وأنا أقرأ ومتسلحا بقدر الله، تجولنا في منزله واكتشفنا مدى هول الخراب فيه.. بطولة سطرتها إحدى النساء وسحبت جريحا كاد أن يهلك رغم كثافة الرصاص حولها، أم فايز محمد مفرح تقول: سمعت أولادي يصرخون بأن هناك أحد المصابين لا يستطيعون سحبه كان يصرخ أنقذوني.. فقالت أنا سأسحبه فخرجت وأنا متوكلة على الله وسحبته بعدها أسعفه حرس الشيخ.. يقول زوجها رضينا بالقدر كيف نترك المنزل الذي تعبنا عليه 28نفسا فيه، جهدنا كله هنا ولدينا محلات في السوق.. تعرضت للنهب، لم يعد معنا شيء، نعيش هنا في ظلمة وكرب وعيشة قاسية.. وجدنا عندهم أيضا أحد الأشخاص الذين لجأوا إليهم محمد عجلان حارس في السوق ليس لديه أحد، يقول: نجوت من "الدانات والبوازيك" عدة مرات وقتل شخص أمامي وحاولت سحبه إلى أحد المنازل فلم أستطع.. تتابع أم فواز بقولها، بناتي وزوجات أبنائي هربن إلى البلاد ونحن بقينا للحفاظ على بيتنا، أخذنا زوجها إلى أعلى سطح في المنزل وجمع عددا كبيرا من الرصاص والقذائف التي وصلت إلى سطح منزلهم، كما أشار إلى مكان الرصاص والقذئف التي دخل منزله وحطمت الغرف وكادت تقتل زوجته، ومن السطح أيضا رأينا المنازل المجاورة التي أحرقت أو هدمت أو أصابها الرصاص، كما رأينا السوق وأقوات الناس المترامية في كل زاوية والمحلات التي أصابها الدمار.. تساءلت كم من شخص كانت تلك العربة أو المحل مصدر رزقه الوحيد وكم خسرت من أسر وأغلقت كل سبل الحياة أمامها، وافترسها العوز والحاجة.. صراع الموت.. والحياة انطلقنا إلى منطقة أخرى في شارع "مازدا" كان الوضع أحسن حالا من تلك المنطقة كان ما يزال هناك عدد لا بأس به من السكان وما زالت بعض نبضات الحياة فيها.. أخذنا خالد القليصي إلى منزلهم الذي تعرض لقذيفة أصيبت فيها مريم بجروح خطيرة، يقول: يوم الحادثة سمعنا وابل الرصاص ثم دخلت القذيفة منزلنا وأصيبت مريم بجروح لم نستطع في تلك اللحظة إسعافها بسبب الضرب المتواصل.. ثم أسعفناها إلى أقرب مكان المشفى الميداني ثم إلى مشفى العلوم لخطورة الحالة.. مضيفا أصابنا الذهول والفزع وما زلنا إلى اليوم كلما سمعنا ولو صوتا بسيطا حسبناه رصاصا.. ابتداء وفاطمة تغيرت حياتهما وأصابتهما الخوف، أما الطفلة هاجر لم ترد العودة إلى البيت وإلى الآن وهي تصرخ وتبكي فقد أثر ذلك اليوم عليها.. تغيرت حياتهم وكل شيء في عيونهم كساه الحزن والألم والخوف.. من ناحية أخرى تفقدنا بعض محلات المواطنين وسألناهم عن أوضاع البيع والشراء والحالة الإنسانية هناك محمد قائد- صاحب بقالة (توكل على الله) تحدث قائلا الخسارة كبيرة، أغلقنا الدكاكين وهربنا من الحارة، فسدت بضاعتنا ولم نستطع إلى اليوم توفير الإيجارات.. عمار المسوري ذهبنا إلى دكانه وهو يحمل بضاعته.. سألناه عن حاله فقال كما ترين الوضع المادي والإنساني سيء، حسرنا كثيرا والآن مضطر أن أخذ بضاعتي إلى مكان آخر.. إلى أين.. خرجنا من منطقة الحصبة وقد شاهدنا دمارا كبيرا ووضعا إنسانيا متدهورا وشممنا في كل ناحية فيها الموت والبارود حتى أثناء التقائنا بالسكان كانت هناك عوائل تواصل النزوح وتودع المكان بعيون حزينة وباهتة، فلم يعد للناس وجود ولا لضحكات الأطفال بقاء، كل شيء في يوم وليلة أصبح شبحا يسكن المكان وروائح الموت والبارود هي سيدة الموقف..