الحوثيون يعتقلون فنان شعبي وأعضاء فرقته في عمران بتهمة تجريم الغناء    مارب تغرق في ظلام دامس.. ومصدر يكشف السبب    المخا الشرعية تُكرم عمّال النظافة بشرف و وإب الحوثية تُهينهم بفعل صادم!    اسقاط اسماء الطلاب الأوائل باختبار القبول في كلية الطب بجامعة صنعاء لصالح ابناء السلالة (أسماء)    لماذا إعلان عدن "تاريخي" !؟    ترتيبات الداخل وإشارات الخارج ترعب الحوثي.. حرب أم تكهنات؟    مأرب قلب الشرعية النابض    تن هاغ يعترف بمحاولةا التعاقد مع هاري كاين    الكشف بالصور عن تحركات عسكرية خطيرة للحوثيين على الحدود مع السعودية    "اليمن ستكون مسرحاً لحرب استنزاف قبل تلك الحرب الكبرى"..خبير استراتيجي يكشف السيناريوهات القادمة    اخر تطورات الانقلاب المزعوم الذي كاد يحدث في صنعاء (صدمة)    الهلال السعودي يهزم التعاون ويقترب من ملامسة لقب الدوري    معركة مع النيران: إخماد حريق ضخم في قاعة افراح بمدينة عدن    "أموال عالقة، وصراع محتدم: هل يُعطل الحوثيون شريان اليمن الاقتصادي؟"    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    شعب حضرموت يتوج بطلاً وتضامن حضرموت للبطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت    تتقدمهم قيادات الحزب.. حشود غفيرة تشيع جثمان أمين إصلاح وادي حضرموت باشغيوان    في اليوم العالمي لحرية الصحافة.. الإرياني: استهداف ممنهج وغير مسبوق للصحافة من قبل مليشيا الحوثي    وكلاء وزارة الشؤون الاجتماعية "أبوسهيل والصماتي" يشاركان في انعقاد منتدى التتسيق لشركاء العمل الإنساني    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    د. صدام عبدالله: إعلان عدن التاريخي شعلة أمل انارت دورب شعب الجنوب    فالكاو يقترب من مزاملة ميسي في إنتر ميامي    أمين عام الإصلاح يعزي في وفاة أمين مكتب الحزب بوادي حضرموت «باشغيوان»    الوزير البكري يعزي الاعلامي الكبير رائد عابد في وفاة والده    خادمة صاحب الزمان.. زفاف يثير عاصفة من الجدل (الحوثيون يُحيون عنصرية أجدادهم)    بعد منع الامارات استخدام أراضيها: الولايات المتحدة تنقل أصولها الجوية إلى قطر وجيبوتي    مارب.. وقفة تضامنية مع سكان غزة الذين يتعرضون لحرب إبادة من قبل الاحتلال الصهيوني    البنتاجون: القوات الروسية تتمركز في نفس القاعدة الامريكية في النيجر    كارثة وشيكة ستجتاح اليمن خلال شهرين.. تحذيرات عاجلة لمنظمة أممية    تعز تشهد المباراة الحبية للاعب شعب حضرموت بامحيمود    انتحار نجل قيادي بارز في حزب المؤتمر نتيجة الأوضاع المعيشية الصعبة (صورة)    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    دوري المؤتمر الاوروبي ...اوليمبياكوس يسقط استون فيلا الانجليزي برباعية    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    أيهما أفضل: يوم الجمعة الصلاة على النبي أم قيام الليل؟    طقم ليفربول الجديد لموسم 2024-2025.. محمد صلاح باق مع النادي    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    استشهاد أسيرين من غزة بسجون الاحتلال نتيجة التعذيب أحدهما الطبيب عدنان البرش    إعتراف أمريكا.. انفجار حرب يمنية جديدة "واقع يتبلور وسيطرق الأبواب"    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    الخميني والتصوف    تقرير: تدمير كلي وجزئي ل4,798 مأوى للنازحين في 8 محافظات خلال أبريل الماضي    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة نقدية تصحيحية لقرن من نظريات وممارسات الطب العقل- نفسي
نشر في التغيير يوم 17 - 03 - 2016

عندما يتناول الانسان موضوعا علميا فانه يحسن به ان يبدأ بما هو معلوم وثابت ولا شك فيه، وأن ينطلق من هناك مستخدما المنطق والتجريب، لأن ذلك من شأنه أن يقيه من الشطح والانسياق مع الخيال الى عوالم التيه كما حدث لمؤسس مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد ونظيره يونغ ومن لف لفهما. وما الهذا، والانا، والانا الأعلى، والهو،
وتسميات كثيرة أخرىالا بنات الخيال الجامح المندفع.
الانا الأعلى هو ما نسميه الضمير طبقا لفرويد الذي يقول "انه على امتداد فترة الطفولة المديدة التي يجتازها الفرد الناشئ ويكون اعتماده في اثنائها على والديه تتشكل في أناه، كما بضرب من الترسب، هيئة خاصة تكون بمثابة امتداد للتأثير الوالدي. هذه الهيئة هي الانا الأعلى. وبقدر ما ينفصل الانا الأعلى عن الانا او يعارضه، يشكل قوة ثالثة لا مناص للانا من ان يعمل لها حسابا. ويعد صحيحا كل تصرف يصدر عن الانا ويلبي مطالب الهذا والانا الأعلى والواقع معا، وهذا ما يحدث حين يفلح الانا في التوفيق بين هذه المطالب المتباينة."(فرويد مخطط التحليل النفسي ص 10).
وهذا كله خيال في خيال، والواقع ان ما نسميه الضمير، على سبيل المثال لا الحصر، ليس الا آلية كف منشؤها الذاكرة لحمتها وسداها الخوف الذي يمنعنا من ركوب المخاطر المهددة للحياة سواء كانت مصادرها بيئية او اجتماعية أو وعيدا دينيا. وسيتضح لنا ذلك بجلاء حين ننتهي من قراءة هذه الاطروحة.
جمع العلماء والاعلاميون العلميون كما ضخما من الملاحظات والافلام التسجيلية حول الجوانب المتنوعة من طبيعة وسلوك الكائنات الحية، وأصبح معلوما وثابتا ان تكوينها وسلوكها محكومان بهدفين رئيسين هما حفظ الذات وحفظ النوع. وهذان الهدفان الرئيسان يتمظهران في الدوافع الغريزية التي تندرج في خدمتهما، فليس في الحيوان غريرة عدوانية لمجرد الاعتداء دون سبب من حفظ الذات أو حفظ النوع (الصغار والقطيع)، او القتل لمجرد القتل،أوالافتراس دونما حاجة ناشئة عن جوع،او الاغتصاب الجنسي دونما حاجة للتناسل وهلم جرا. فالحيوان يشعر في بيئته الطبيعية بالرضا ونشوة الحياة بإطاعة دوافعه الغريزية دون تزيد أو تفنن، لان السبل كلها مفتوحة أمامه وليس فيها عوائق مصطنعة كما هو الحال في المجتمع البشري.
في مقالة للدكتور إيريك فروم عالم النفس وفيلسوف علم الاجتماع ترجمتها ونشرتها في كتابي "من الثقافة العالمية" قام بإلقاء أضواء هامة على النشوة التي يحصل عليها الإنسان من ممارسة العنف حيث يقول: " إن مبدأ الالتذاذ بالعنف والسيطرة المطلقة على الأشياء والبشر لا يقتصر أبداً على مجال الإثارة الجنسية وحدها. فالمدرس الذي يهين أو يضرب أو يرعب تلميذه، وحارس السجن الذي يفرغ جام غضبه بإهانة وتهديد سجين لا حول له ولا قوة، والممرضة التي تفعل الشيء ذاته، بأسلوب موارب، بالمريض الذي لا يستطيع الاحتجاج لأسباب اجتماعية أو جسدية، والشخص الذي يضرب كلبه بلا رحمة إن لم ينفذ أوامره – كل هؤلاء إن هم إلا بعض الأمثلة على الالتذاذ بالعنف الذي ليس في حد ذاته جنسي الطابع. وغالباً ما يظهر الالتذاذ بالسيطرة الكاملة نفسه في صورة رغبة ملحة في تعذيب شخص ما، إذ أنه لا تكاد توجد طريقة أكمل للإحساس بالسيطرة المطلقة من إجبار شخص على معاناة الألم في الوقت الذي يكون فيه عاجزاً عن الرد أو الدفاع عن نفسه ضد المعتدي.
والالتذاذ بالعنف التدمير لا يتخذ دائماً أشكالاً بديهية كالتعذيب بل قد يتمظهر في العمل على خنق إرادة الآخر أو عفويته أو حريته. وهذا النوع من التدمير والعنف عادة ما يعقلن نفسه بالإدعاء بأنه ذو دوافع حسنه أو حتى بالقول أن دافعه هو الحب. وهناك نوع شائع من هذا المرض يسمى مرض "الاغتصاب والنهب والتدمير". وأعني به المرض الذي يظهر في سلوك الجنود المنتصرين في الحرب، سواء في الحروب القديمة أو في الحروب المعاصرة، وذلك عندما يسمح لهم ولو لوقت قصير بممارسة سلطة مطلقة على الشعب المهزوم. وهنا لا يكون اغتصاب النساء تعبيراً عن الرغبة الجنسية بل تعبيراً عن الرغبة في السيطرة المطلقة. وكذلك الحال أيضاً فيما يتعلق بالسرقة أو بتدمير ما لا يمكن حمله من أغراض. وبعبارة أخرى فإن خصائص الالتذاذ بالتدمير عبارة عن شعور بالقوة المطلقة ورغبة في التعالي على محدودية الوجود الإنساني حتى ولو ليوم أو بعض يوم. "
ويضيف فروم " إن من أحد الأسباب الرئيسية لتكون الالتذاذ المرضي بالعنف والتدمير، هو وجود شعور عميق لدى الفرد بانعدام الحيوية والملل والسلبية إزاء نمط حياة رتيب يصبغ الحياة باللون الرمادي في أعين الكثيرين. والشخص العاجز من هذا النوع يكون غير مبدع سواء في التفكير أو في المشاعر أو في العلاقات الشخصية أو في الأدب أو الفن. ويجد متعته في الأمر الوحيد الذي هو مضاد لمعجزة خلق الحياة، ألا وهو تدميرها. وصحيح أن مقدرة الإنسان على المساهمة الإيجابية في بناء الحياة تتطلب منه امتلاك القدرة الجنسية على الأقل، إن لم يمتلك القدرة على الشعور بالمحبة، كما تتطلب منه النشاط والمشاركة والاهتمام عندما يتعلق الأمر بالمساهمة البناءة في جوانب أخرى من جوانب الحياة. أما التدمير فإنه لا يتطلب إلا مسدساً أو سكيناً أو يدين قويتين. فهذا الضال يجد سعادة قصوى في إيهام نفسه بأنه السيد على الحياة التي لا يتمكن من الإمساك بها والمشاركة فيها بإيجابية. وهذا النوع من التدمير يتميز بمشاعر بدنية عارمة يشترك فيها الجسد كله، وذلك ما يجعله قابلاً للخلط بينه وبين الإثارة الجنسية. والحال أنه ليست كل إثارة بدنية عارمة إثارة جنسية وإن كان من الممكن مزجهما بسهولة".
وعن النظريات التي حاولت تفسير العنف يقول " أسهم فيه المحللون النفسانيون الفرويديون الذين لم يتبعوا فرويد في تصوراته، ولكنهم استنبطوا وجود ميول تدميرية لدى الإنسان. ويشاطرهم لورنز فكرتهم حول الميول التدميرية، ولكنه يربطها بتصورات تقول بأن العنف الموروث لدى الإنسان يرجع إلى عملية التطور التي انتقل بها الإنسان من عالم الحيوان (أي أنه دارويني في هذه النقطة بالذات). وحسب المحللين النفسانيين ولورنز، فإن العنف يتكون تلقائياً وبصورة عفوية في الجهاز العصبي وينمو ويتراكم، ولذلك يجب التعبير عنه لكي لا ينفجر فجأة حتى بدون قصد من الشخص. والعنف من وجهة النظر هذه لا يحتاج إلى إثارة أو استفزاز. وإنما ينشأ تلقائياً ويبحث حتى يجد تلك المثيرات التي تعطيه الفرصة للتعبير عن نفسه."
ويضيف فروم " والمشكلة الأساسية في الفكرة القائلة بأن العنف دافع ينمو تلقائياً وعفويا،ً تكمن في التفاوت الكبير الملاحظ في مقدار العدوانية لدى الأفراد والمجتمعات. وتشير الأدلة الإكلينيكية والأنثروبولوجية إلى أن هناك أناساً ومجتمعات لديهم مقدار ضئيل من العدوانية والسلوك التدميري، سواءً ما كان منهما موجهاً نحو الذات أو نحو الغير. كما تشير الأدلة أيضاً إلى أن هناك أفراداً ومجتمعات يتصفون بقدر عالٍ من العدوانية والنزعة التدميرية. فإذا كانت العدوانية دافعا مثلها مثل الجوع والرغبة الجنسية، فإن هذه الفروق الكبيرة في درجات العدوانية والنزوع إلى التدمير لا يمكن تفسيرها. إضافة إلى أن الاعتبار البيولوجي الخالص للحجة السالفة يضعفها عند مقارنة الرغبة الجنسية بالنزوع إلى التدمير. فمن الناحية العلمية (الثيلولوجية) فإن الفطرة تهتم ببقاء الجنس البشري وانتشاره، ولذلك يمكن فهم كون الرغبة الجنسية رغبة قائمة ودائمة. ولكن الميل إلى التدمير من ناحية أخرى ليس له إلا وظيفة دفاعية حفاظاً على الذات عند تعرضها للعدوان. ولذلك فإن تصور أن هذا النوع له نفس طابع الرغبة الجنسية يفتقر إلى المصداقية من الناحية البيولوجية. ولابد من ذكر أن الدراسات الجسمعصبية تشير إلى أن مراكز العدوانية تقع في الجزء الأسفل من الدماغ الذي يمكن تحديده، ويوازنه مركز كبح. ولذلك فلا يمكن أن تنشأ فيه مشاعر عدوانية ذاتية التغذية تنمو تلقائياً وتتزايد حتى تنفجر كما طرحته النظريات المذكورة أعلاه.
أما التصور القائل بأن العنف والميل إلى العدوان لدى الإنسان ناشئ عن أثر تطويري في عملية ارتقاء الإنسان من عالم الحيوان، تنقضه حقيقة أن الثدييات وخاصة القردة العليا هي أقل من الإنسان عدوانية ونزوعاً إلى التدمير بكثير. ففي أوساطها لا وجود تقريباً لأي عملية قتل لفرد من الجنس ذاته، كما أنه لم يلاحظ في سلوكها قتل لمجرد القتل لأعضاء الفصائل الحيوانية الأخرى".
المعلوم والثابت
1- يولد الكائن الحي مزودا بمعرفة وقدرة موروثة على التصرف الصحيح، منذ لحظة ولادته او انبثاقه، تساعده على البقاء حيا في الظروف البيئية الملائمة. وبعض انواعه يتبلر او يتحوصل او يبيت بياتا شتويا بانتظار الظروف الملائمة ليستأنف نشاطه. كما يستطيع بعضها ان يتطور كما هو الحال في الفيروسات والبكتيريا ليقاوم المواد المهلكة التي تطرأ على بيئته، في قدرة مذهلة من السيطرة على جيناته الخاصة واحداث تغيير فيها.
2- الكائنات الحية كلها كائنات اجتماعية وذلك نتيجة تكاثرها أيا تكن طريقة التكاثر، وهي تملك قدرة موروثة على التواصل ضمن نوعها، وتتضمن وسائل تواصلها الصوت والسونار والمواد الكيميائية والنبضات الكهربائية والتخاطر. ففي الأسماك ما يتحرك في تجمعات تضم الألوف بحركة منسقة موحدة، ومن الحشرات ما يعيش في مجتمعات شديدة التنظيم كالنحل والنمل.
3- يولدالكائن الحي مزودا بقدرة موروثة على الملاحظة والانتباه والتركيز وهي المهارات المطلوبة للتعلم ومن ثم اختزان ما تعلمه في ذاكرته واستحضار ما تعلمه عند الحاجة. تستوي في ذلك الأسماك والقشريات والحشرات والزواحف والطيور والثدييات وان كانت تتفاوت مهارات التعلم فيما بينها في الدرجة. وربما كانت تلك القدرة مما تتمتع بها الفيروسات ووحيدات الخلية والنبات أيضا.
4- يولد الكائن الحي بجهاز عصبي مكون من مركز هو الدماغ واعصاب منتشرة في الجسم متصلة به، وهذا المجموع له مهمة وحيدة هي حفظ حياة الكائن، وهو مبرمج، ان صح التعبير، على أداء هذه المهمة في إطار التحكم بوظائف الحس بكل أعضائه، عبر ميكانبزمات كيميائية وكهربية منسقة. وقد اعتقد الناس الذين امتلكوا الوعي ان الجهاز العصبي منقسم الى قسمين هما: لا ارادي وارادي، وهو خطأ ناشئ عن ربط حركات الأطراف بما يسمونه الإرادة، وربط حركة الأعضاء الحيوية في الجسم بالقسم اللا ارادي من الجهاز العصبي.
والحال انه تقسيم مصطنع ولا أساس له الا الوهم المحض. وتدل مراقبة سلوك الحيوانات العليا ان قدراتها في التعلم مندمجة مع قدراتها الموروثة لحفظ الذات، وهي تستخدم ما تتعلمه في تعزيز قدرات حفظ الذات، عن طريق اللعب والتصارع والوثب والعدو بحيث يعمل جسمها بأقصى كفاءة ممكنة اتاحها لها تكوينها الفيسيولوجي، إضافة الى ما تؤديه المعارف المكتسبة من التعلم كآلية كف تمنعها من التعرض لمخاطر بيئية مثل خوض صراعات خاسرة او التردي من شواهق او الوقوع في نيران تصادفها...الخ.
والحيوانات ما عدا بعض الداجنة منها لا تعرف القلق والاكتئاب المرضيين الذي يعاني منهما الانسان ما لم تتعرض الى مؤثرات ومواد في بيئتها اوفيالاسر والاحتجاز في ظروف سيئة فيصاب دماغها وجهازها العصبي بالتلف.
ولكن وظيفة الكف هذه،والتي تعني فيما تعنيه الخوف،والتي تزيد من مداها قدرة الانسان على التعميم ومن ثم الامتناع عن التعرض للتجارب، تعزز ظاهرة الكسل عند الانسان الذي تمكن من تامين طعامه واحتياجاته الأساسية عن طريق ابداعاته كتدجين الحيوان والزراعة والصناعة، الامر الذي يحول بينه وبين تطوير امكانياته البدنية فيصاب بأمراضوآفاتمنها السمنة وماينتج عنها والضجر وغيرها، وهو ما تشاركه فيه الحيوانات الداجنة التي ييسر لها الانسان احتياجاتها دون ان تبذل جهدا لتحصيلها.
وعلى ذلك فان الجهاز العصبي عند الانسان موحد وتظهر وحدته هذه في ردود أفعال الانسان في المواقف الطارئة حيث يختفي الكف وتظهر القدرات. ومن المعروف ان كل تدريب بدني يتلقاه الانسان يصبح جزءا من قدراته الموروثة التي تظهر عند الحاجة وكأنها أفعال انعكاسية، مثل حركات المصارعة والملاكمة والفنون القتالية بمختلف أنواعها، وكذا قيادة الآليات والطبع على لوحة أحرف الحاسوب، وما ينتج عن التدريب العسكري من تلافي الإصابة بالشظايا عن طريق الانبطاح وغير ذلك.وليس عبثا ان مدارس الفنون القتالية الشرقية تركز على التكرار المستمر والاسترخاء وتمارين التنفس والتركيز التأملي الذي يؤدي الى طرد الشكوك والوساوس ويشيع في الانسان الثقة بالنفس. بل ان التفكير المنطقي والقدرة على حل الأسئلة العويصة قدرة تكتسب بالممارسة والانشغال فتنضم بدورها الى القدرات الموروثة لتصبح تلقائية، تماما كالقدرات البدنية المكتسبة التي ذكرناها للتو.
الهذا والهو والأناوالأنا الاعلى
انطلق فرويد من فرضية تقول بان الحياة النفسية وظيفة لعضو بدني هو المخ او الجهاز العصبي، وان هذا الجهاز مؤلف من اقسام عدة. ويطلق فرويد على أقدم هذه الأقسام اسم الهذا؛ وهو يتضمن كل ما يحمله الكائن الإنساني معه عند ولادته، وفي المقام الأول الدوافع الغريزية الصادرة عن التنظيم البدني والتي تجد في الهذا اول نمط من أنماط التعبير النفسي. وانه يطرأ على شطر من الهذا تطور يجري فيه قيام تنظيم خاص يصبح وسيطا بين الهذا والخارج، ويطلق فرويد على هذا الوسيط اسم الانا، وينسب اليه مهمة حفظ الذات والتحكم في الحركات الارادية، والسيطرة على الدوافع الغريزية اما بالإشباع او الارجاء او الرفض. وبهذا الانشطار يتحول الهذا الى الهو المتوحش في مواجهة الانا العاقل، أي صورة من مستر جيكل ومستر هايد كما في الرواية الشهيرة. ثم يتخلق الانا الأعلى وهو عبارة عن الضمير الذي يتكون بفعل تأثير الوالدين والمجتمع ومن ثم يكبح الانا ويوجهه الى ما يرضي المجتمع. (فرويد – مخطط التحليل النفسي ص 8، 9، 10)
وفرويد كاتب متدفق مسترسل بتميز بخيال واسع، أشبه ما يكون بكتاب روايات الخيال العلمي.
يقول برتراند رسل "يمكن لكل معرفة سيكولوجية ان تعرض دون ادخال "الانا". زد على ذلك انالانا كما تعرف، لا يمكن ان تكون شيئا الا حزمة من الادراكات، وليست "شيئا" بسيطا جديدا. ولا يترتب على هذا فقط اننا لا يمكننا ان نعرف ما اذا كان ثمة "أنا" بسيطة أم لم يكن، وان الانا باستثناء كونها اشبه بحزمة ادراكات،لا يمكن ان تدخل في أي جزءمن معرفتنا، وهذه النتيجة هامة في الميتافيزيقيا، من حيث كونها تتخلص من آخر استخدام باق "للجوهر".
المجتمع الإنساني الحديث
أدى تطور السلطة في المجتمع الى حد المراقبة الفعالة والصارمة، والعقاب الذي لا هوادة فيه لكل خروج على القوانين وضعية كانت أو دينية والتي تحدد علاقة الانسان بالمجتمع ومؤسساته وافراده، الى جعل الانسان مقيدا الى حد كبير، وأصبح الطريق الى حياة طيبة،ضمن قيود المجتمع ووفق شروطه، محدودا ومزدحما لا يتمكن من سلوكه الا اقلية محظوظة، وبخاصة مع تنامي اعداد البشر، وسهولة إطالة اعمار الضعفاء بدنيا وعقليا ومواهبا، ومن ثم تضاؤل الاصطفاء الطبيعي والجدارة بالحياة التي كان يوفرها. ومن هنا صار الشعور بالإحباط والخوف والضجر ظاهرة عامة،مع ما تؤدي اليه البيئات المزدحمة في المدن من تجاهل للتربية البدنية التي هي عامل أساس في تكوين انسان سليم قوي، فانتشرت الاعصبة المرضية وظواهر الاختلال النفسي انتشار النار في الهشيم.
كنتيجة لذلك اتجه الناس الى وسائل بديلة للتنفيس والخروج من الحصار الخانق، فلم يجد الكثيرون في مجتمعات، تصالح افرادها مع أجسادهم ولا يسمحون بالحد من حرياتهم في التصرف بها كيفما شاءت اهواؤهم، الا الاتجاه الى ما أتيحلهم من التوسع في ممارسة العلاقات الجنسية وتعاطي الخمور دون موانع، وتوسعوا في سبل الاثارة والنشوة من الرياضة الى المسابقات المختلفة وممارسة الرياضة البدنية، والبحث العلمي والاكتشاف المثيران للإنسان بطبيعتهما، والاتجاه الى الادب والفن والعمل الاجتماعي التطوعي. ومن لم تساعده ملكاته ومواهبه لجأ الى المخدرات الممنوعة المحفوفة بالمخاطر الصحية التي تغيب الوعي، والتوسع في ممارسة الجنس سعيا وراء النشوة والرضا.
أما في مجتمعات أخرى تمنع الانفلات الجنسي وتحتقر الادب والفن، ولاتشجع المبادرات والعمل الخلاق وتفرض قيودا كثيرة على حرية التعبير،ومن جهة أخرى تعاقب بشدة متعاطي المخدرات والخمور فقد أصبح العنف البوليسي فيها بديلا يحظى بالشرعية ، ولذلك نجد هذه المجتمعات تحكمها أنظمة متسلطة لاتراعي قوانين ومعايير حقوق الانسان، وينتشر فيها كذلك العنف الديني والإرهاب المنطلق من مبررات وذرائع دينية،لتصبح كلها طرقا الى تنفيس الإحباط، ووسيلة الحصول على الشعور بالنشوة التي يهبها الجسم للمنتصرينفي ممارسة العنف،كمكافأة رئيسة على النجاح في تحقيق رغباته وكحافز قوي للتكرار، اذ ان الصراع العنيف جزء أساسي من وسائل الكائن الحي لحفظ الذات وحفظ النوع.
ولذلك فالنشوة والسعادة تعقب الانتصار في الصراع والنيل من الخصم المزعوم بأي شكل، او عند تحقيق ما يدخل في دائرة حفظ الذات والنوع من قريب او بعيد، مباشرة او مداورة، ولذلك تنتشر جرائم الاعتداء على النفوس والأموال واستهداف العناصر الضعيفة كالنساء والأطفال والمسنين، وتتشكل المنظمات الاجرامية لترويج الممنوعات وارتكاب كل ما يجرمه القانون،وذلك يرينا بالضبط سبب الشعبية الكبيرة التي تحظى بها أفلام الاثارة والعنف كعامل تعويضي عن طريق التماهي،وهو نفسهسبب الشعبية الكبرى لألعاب الفيديو العنيفة في كل المجتمعات الانسانية.
اما المستعدون في المجتمعات الإنسانية لغض النظر عن الموانع الدينية في المسائل الجنسية فيلجأون الى التوسع في ممارسة الشذوذ الجنسي الذي تسهل ممارسته بسبب كون الموانع القانونية التي تحرم الاختلاط بين الجنسينلا تشمل اختلاط افراد الجنس الواحد. كما تنتشر بينهم الانحرافات الجنسية الأخرى، كالسادية والمازوشية والنيكروفيليةوالفيتيشية ...الخ.
ومن الثابت والمعلوم ان أسباب الشذوذ و بعضالانحرافات الجنسية جينية، في الأساس الا ان انتشارها بسبب الأوضاع الاجتماعية أوسع. وهو ما يوجب البحث حول احتمال حدوث التغير الجيني نتيجة للممارسة.
الامراض النفسية والعلاج الاحدث
طبقا لمجلة العلوم أكتوبر 2010 فان ما نعرفه تاريخيا هو ان الأطباء من جميع الاختصاصات تقريبا كانوا يحاولون دائما استقصاء الأسباب الكامنة خلف الداء الذي يصيب مرضاهم قبل ان يقوموا بوضع خطة علاجية من شانها إزالة المشكلة من جذورها. الا ان الحال لم تكن كذلك في الماضي عندما كان الامر يتعلق بالأمراض العقلية او السلوكية نظرا لعدم توفر الوسائل القادرة على اكتشاف أسباب عضوية لها. وهكذا، فقد ظل الأطباء لأمد طويل يعتقدون ان هذه الامراض لم تكن سوى امراض عقلية، ويصفون للمصابين بها علاجا سيكولوجيا، والمعالجة السيكولوجية هي المعالجة الكلامية الغير الدوائية التي يتلقاها المريض على يد المختص بها.
اما اليوم فان وسائل البحث العلمي المتوفرة، القائمة على أسس البيولوجيا الحديثة والعلوم العصبية وعلم الجينوميات قد اخذت شيئا فشيئا تدحر النظريات السيكولوجية الصرفة التي سادت وحدها نحو قرن من الزمن (قرن فرويد ونظرائه)، وتستعيض عنها بأساليب علاجية جديدة للأمراض العقلية.
هناك عدد كبير من الامراض التي كانت تدرج تحت عنوان الامراض العقلية قد تم اليوم الاجماع على ان لها سببابيولوجيا كالتوحد والفصام والاكتئاب والوسواس القهري وحتى اضطراب الكرب التالي للصدمة يمكن ان تكون هي أيضا من اضطرابات الدماغ الفيسيولوجية.
لقد مكنتنا تقنيات التصوير المعاصرة من رسم خرائط للدماغ الحي، بحيث صارت قادرةعلى رصد الخلل الذي يطرأ على النشاط الوظيفي في المحطات المختلفة للدماغ أو في شبكة اتصالاتها. بهذه التقنية أصبحناقادرين لأول مرة على دراسة الاضطرابات العقلية انطلاقا من الفرضية القائلة انها تنشأ على أرضية اضطرابات تصيب شبكات اتصالات محطات الدماغ المتباعدة، أو تنشأ في بعض الحالات على خلفية خلل في تنسيق العمل في محطات دماغية تعمل عادة على نحو متزامن بعضها مع بعض. ويمكن تشبيه محطات الدماغ التي تعمل معا لإنجاز عمليات ذهنية طبيعية، بمجموعة من الدارات الكهربائية التي إذا اختلت وظيفتها يمكن ان تحرض عددا من الاضطرابات العقلية، كما تشير نتائج البحث العلمي الأخيرة.
وختاما فان الرسم البياني أو الخارطة الخاصة بكل اضطراب عقلي زعزعت اركان الطب النفسي، واحدثت تحولات عميقة بداخله، وفتحت ابوابا امام مزيد من التشخيص التجريبي للأمراض العقلية، وزودتنا بطريقة تفكير معمقة في أسباب هذه الامراض، وفتحت آفاقا جديدة أمام المساعي الرامية الى تطوير أساليب علاج أكثر فعالية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.