العلمانية كمصطلح حديث يعبر عن مفهوم فصل الدين عن الدولة ظهر في منتصف القرن التاسع عشر لتوصيف مجموعة الافكار والقيم التي تبلورت بدا من عصر النهضة ومعارك الاصلاح الديني الا انها ككثير من المصطلحات والنظريات الحديثة لا تعدم ان تكون موجودة كمفهوم وممارسة وواقع قبل ان ترتبط بمصطلحاتها الحديثة نسبيا ثم يتلوها تطور المفهوم بالتوازي مع تطور المصطلح وتطور العلاقة بينهما . اول ملامح العلمانية التي يقدمها التاريخ المدون ربما تكون في الانقلاب على سلطة الملوك الكهنة من قبل قادة عسكريين وتحويل المؤسسات الدينية والعسكرية الى مؤسسات تابعة وليس مسيطرة وتصبح القدرة العسكرية والقوة السياسية الناجمة عنها هي المتصدرة في موضوع حسم صراع السلطة وتتكرر هذه المشاهد بدء من الحضارة الفرعونية وخلال مسيرة التاريخ ضمن ملحمة الصراع على السلطة والسيطرة على البشر . لكن كلفة مواجهة المشاعر الدينية المتأصلة في الشعوب هي ما دفعت الحكام وبذكاء لتغيير صيغة العلاقة مع المؤسسة الدينية بدلا من التخلي عنها او معادتها والتنكر لها الى السيطرة عليها واستخدامها لخدمتهم وان اظهروا الخضوع لها وذلك عن طريق التحالف مع المؤسسة الدينية بتعاقد ضمني قائم على المصلحة المشتركة والمنافع المتبادلة ليقوم رجال الكهنوت وسدنة المعابد برفع الحاكم الى مرتبة الاله او ابن الاله او ظل الاله على الارضاء واضفاء شرعية سماوية على حكمه المأخوذ بالغلبة ولم ينخدع اولئك الحكام لعلمهم انه عندما تأتي رياح التغيير لن تتواني المؤسسة نفسها عن اسباغ نفس الشرعية على المتغلب التالي وتبرير وشرعنة رغباته وأوامره وتغييراته وتقديمها على انها ارادة الله نفسه . وهؤلاء الحكام الذي يسجد لهم الكهنة وهم يسبحون بحمدهم ويربطون رضاء الله عن الشعب بطاعتهم هم اول من يتجه لممارسة ما سيصطلح عليه لاحقا بالإجراءات العلمانية لمواجهة وقمع المؤسسات والسلطة الدينية اذا حاولت ان تلعب دور مختلف وتقف امام سلطتهم او تحاول الحد منها . في التاريخ الاسلامي يبرز موضوع العلاقة بين الدين والدولة بداء من الفترة الرسالية نفسها فالإسلام يقدم نفسه من البداية كدين يرفض الكهنوت ويفسر الآيةالقرآنية ( اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله ) عندما انكروا هذه التهمة بانهؤلاء قدموا انفسهم وكلاء عن الله ثم شرعوا في تسويق رغباتهم ومصالحهم كأوامر الهية واجبة الاتباع وهو هنا يرفض التسلط باسم الدين من حيث الاساس ويعتبره خطيئة توازي الشرك بالله , وعندما يقترح الرسول وهو قائد الدولة خيار سياسي لمواجهة تحالف الاحزاب المحاصر للمدينة المنورة بإعطاء ثلث ثمار المدينةلقبيلة غطفان مقابل فك الحصار فيأتي رد سعد بن معاذ اهم زعماء مجتمع المدينة ليبدي طبيعة العلاقة من خلال سؤاله يا رسول الله امرا تحبه فنصنعه ام شيء امرك الله به لابد لنا من العمل به ام شيء تصنعه لنا وعندما يأتي رد الرسول ان هذا امر من امور الدولة والحرب وهو اقتراح يقدمه كقائد سياسي لا يحتكر القرار لنفسه فيقبل رفض السعدين زعيمي مجتمع الانصار ويمضي رايهما في امور الدولة وغيرها كثير من الحوادث التي تبين الفهم العميق والفصل بين الدور الرسالي والنبوي من جهة والدور السياسي كقائد للدولة يتبنى اسمى الممارسات الديمقراطية وكذلك التأكيد على البيعة كتفويض للحكم رغم اسبقية القبول بالإسلام كدين. وتأتي وثيقة المدينةالمنورة لتمثل واحدة من اوضح تجليات فكر وفقه الدولة المدنية التي تم تأسيسها بموجب هذه الاتفاقية التي ربما تمثل واحدة من اقدم وارقي الوثائق الدستورية وهي تحدد واجبات وحقوق المواطنة في دولة المدينة التي يشكل فيها المسلمون من الاوس والخزرج والمهاجرون اغلبية مقابل اليهود وهي لم تتعامل معهم كمواطنين درجة ثانية بسبب دينهم ولم تفرض عليهم الجزية بل ساوتهم بالمجتمع الاسلامي من حيث واجابات الدفاع عن الدولة وحقهم في ان تدافع عنهم الدولة التي هم جزء منها مع احترام خصوصيتهم المجتمعية والدينية والثقافية وحقهم في تطبيق شريعتهم الدينية بما يتعلق بشؤنهم الداخلية تاركة الحساب الديني لله في الاخرة بما يتعلق بالدين . والحروب التي تمت بعد ذلك ضد اليهود لم تكن لاسباب دينية بل كانت بسبب الانقلاب على تلك الوثيقة الدستور التي قبلها الجميع بالتراضي فكان قتال اليهود تحت عنوان عريض هو الخيانة العظمى خيانة الدستور والعهد والوطن في زمن الحرب وهو ما تفعله اي دولة حديثة او قديمة في مواجهة الخونة بغض النظر عن انتمائهم الديني بل ان الصدام مع احدى المجتمعات اليهودية لم ينعكس على المجموعتين الاخريين الا عند ارتكاب الجرم المشهود كل على حده. وتأتي قصة السقيفة المشهورة ومفاوضات تحديد الوضع السياسي وتنظيم الدولة بعد وفاة الرسول كقائد للدولة واختيار خلف له كقائد للدولة وليس كمنصب ديني فكان الحديث ابعد ما يكون عن المناقشة اللاهوتية او الدينية الفقهية لينقل لنا التاريخ محاورة سياسية بحته تتكلم عن الاوضاع السياسية والاجتماعية وطبيعة العلاقة بين القبائل العربية القاطنة في الجزيرة العربية وضرورة مراعاة هذي العلاقات المعقدة للحفاظ على بنية الدولة الحديثة دون ان يعني ذلك غياب القضية الدينية التي حملها اولئك الرجال عن رسولهم وكانت الدافع والسبب المباشر لقيام هذا التنظيم الاجتماعي والسياسي الجديد كليا عن طبيعة المنطقة خدمة لهذه الفكرة الدينية وقيمها النبيلة والجديدة القائمة على الحرية والعدل . وعندما حول الامويين الخلافة الشوروية القائمة على ديمقراطية الشوري والتراضي بين المكونات القبلية والسياسية للمجتمع الى ملك وراثي كان ذلك بمبررات علمانية بعيدة عن الدين متعلقة بمفهوم الدولة ودور النظام الوراثي في الحفاظ على استقرارها وفعاليتها وليس بمبررات دينية وان ظلت الدولة تقدم نفسها كمؤسسة حاملة للرسالة والدعوة ودعمت تشكل مؤسسة دينية رسمية خادمة للعاهل الملك فعليا وان تقلد لقب خليفة المسلمين وتمت الفتوحات باسمه كأمير للمؤمنين لكن الحاكم كان يكتسب شرعيته من كونه ابن الحاكم السابق وسليل الاسرة الحاكمة ليأتي اسباغ المظاهر الديني عليه كإحدى وسائل الحصول على الولاء والطاعة المطلقة من الرعية بسلطان الدين. وللمفارقة تظهر صورة اخرى لفصل الدين عن الدولة والحكم عمليا في العصر العباسي الذي حاول حكامة الاوائل الاقوياء الالتصاق اكثر بالمؤسسة الدينية وتقديم انفسهم بصورة الحاكم الثيوقراطي والزعيم الديني من خلال ربط شرعيتهم بالانحدار من السلالة النبوية فضلا عن تغلبهم بالقوة وتأسيسهم لملكية وراثية وتنعكس الآية في العصر العباسي الثاني من خلال تجريد هؤلاء الخلفاء الذين تغلفوا بغطاء ديني من السلطة من قبل قادتهم العسكريين الترك والفرس وتظهر دلالة ان يحمل هؤلاء القادة لقب السلطان المرتبط بسلطة الامر الواقع التي اكتسبوها بعيدا عن ادعاء شرعية دينية وابقائهم على المنصب الديني خليفة رسول الله والرمزية الروحية والدينية بيدالعباسيين دون اي سلطة حقيقة ونشاء فصل حقيقي بين الدين ومؤسسته التقليدية من جهة والسلطة كمؤسسة مسيطرة على الدولة واصبح دور الخليفة شكليا بتتويج كل سلطان جديد يتغلب بالقوة وباقي المؤسسة التقليدية الدينية تكيفت لتشريع هذا الوضع الجديد من خلال اقناع الناس بالولاء والطاعة واقرار مبدا جواز ولاية المتغلب دون وجود اي سند او شرعية يرتكز عليا الا القوة بعد ان كانت تفتي الى وقت قريب انه لا تجوز الولاية الا في قريش. هذا الوضع الذي استمر في حقبة سلطنة المماليك في مصر مع وجود خلافة شكلية لينتهيبسيطرة العثمانيين الذين استولوا على السلطة الزمنية بالأمر الواقع والدينية بتجرؤهم على اخذ لقب الخلافة لأنفسهم مع حرصهم على ابراز لقب السلطان قبل الخلفة للتأكيد على هذه السلطة الواقعية التي يتمتعوا بها . الفارق في هذه العلاقة بين الدين والدولة في المسار الاوربي بعد المسيحية ان الكنيسة تحولت فيها الى قوة عظمى ومهيمنة اجتماعيا وسياسيا لتتجاوز دور المرشد الروحي الى سلطة تفوق سلطة الملوك كونها احتكرت حق التواصل مع الله وبالتالي حتى الملوك والحكام يجب ان يخضعوا لسلطانها حتى تصبح الدول التي يحكمونها دول مؤمنة تخضع لسلطان الدين القويم ويكسبوا هم الشرعية برضاء الكنيسة عنهم وخدمتهم لمصالحها ومصالح الفئة الكهنوتية المتحكمة بها وهذا يمثل انقلاب غير مسبوق على الدور الذي ظلت تلعبه المؤسسات الدينية تاريخيا في خدمة الحكام وان مارست تسلط على المجتمع وشرعنت تسلط النظام الحاكم ومن هنا اتى الصراع ضد الكنيسة وبوادر العلمانية الحديثة من خلال تمرد الملوك كممثلين للدولة بكل ابعادها المختلفة للخروج من عباءة وهيمنة السلطة الكنسية والمؤسسة الدينية وان لم يعنى ذلك اعترافهم بشرعية تمثيل الشعب والنضال من اجل الديقراطية فتلك قصة اخرى وان تزامنت مسيرتهما ولكن من خلال حقوقهم الوراثية ومن خلال اعلاء فكرة الدولة مقابل المؤسسة الدينية وتجلتبالإمبراطور هنري الرابع الذي خسر معركته مع الكنيسة ممثلة بشخص البابا غريغوري السابع ليجثو امام البابا في وضع مهين وهو يطلب الغفران الديني ليتمكن من استعادة سلطته الدنيوية على دولته . قصة العلمانية في أوربا هي قصة الصراع بين الملوك والكنيسة مرتبطة بالإصلاح الديني ومن بعده الحروب الدينية التي عصفت بأوروبا ونشؤ الدول القومية الحديثة على انقاض الامبراطوريات التي كانت اكثر خضوعا للمؤسسة الدينية الكنسية وفي خضم الصراع الاجتماعي والشعبي والتغيرات الاقتصادية في انماط الانتاج والتجارة والثروة وبزوغ عصر التنوير والنهضة تولدت مفاهيم الديمقراطية والحرية وحقوق الشعب وحقوق الانسان ورفض الاستبداد هذه القيم التي تعاضدت مع التفكير العلمي الحديث والاساليب العلمية والعملية مستفيدة من العقلية التجارية للبرجوازية الحديثة والسعي نحو الربحية والتفوق هو ما صنع نهضة اوروبا الحديثة التي كان لها جوانبها المظلمة في الاستعمار واستغلال الشعوب الاخرى وثرواتها والوصول الى اخراج تلك الشعوب من دائرة الانسانيةلتبرير افعالها الوحشية التي ارتكبت تحت دافع الكسب والثروة وان حاولت ان تستغل الغطاء الديني كالإمبراطورية الاسبانية التي رفعت شعار التنصير لتخفي وجهها الاستعماري او لاحقا تحت شعارات وايدلوجية علمانية في مرحلتها الامبريالية بمبررات نشر الحضارة والديمقراطية الغربية . ويمكننا ان نقول ان العلمانية قد تحولت بين ان تكون يوتوبيا الى كونها ايدلوجية في الفكر الغربي من خلال فهم مبسط لليوتوبيا كمنظور ادبي وفكري يستخدمه من خارج السلطة غايته التبشير بنظام افضل في محاولة لهدم وزعزعة النظام القائم والايدلوجيا كبنية فكرية وممارسة يصدرها ويخرجها النظام القائم لتبرير وشرعنة وجوده والمحافظة عليه. فالعلمانية كيوتوبيا تم اشهارها في موجهة الكنيسة من قبل القوى الحاكمة والقوى المجتمعيللتبشير بجنة ارضية غرضها هدم الايدلوجية الدينية التي تتبناها الكنيسة للمحافظة على سلطاتها وامتيازاتها من خلال ربط هذه المصالح بالسماء لكن هذه العلمانية لم تستطيع ان تقضي تماما على الشعور الديني العميق لدى الافراد والمجتمعات بل انها حاولت ان تقدم نفسها كمدافع عن الحرية الدينية والحق بالانتماء بل وحامية له من الاستغلال من قبل المؤسسات الكهنوتية . ولكن العلمانية نفسها تتحول الى ايدلوجية تبريرية لقمع الدولة في التجربة الشيوعية وايدلوجية تبريرية لتغول الحضارة الغربية بطوريها الاستعماري والامبريالي فرغم التناقضات بينهما الا انهما اتفقاعلى العلمانية تلك لتبرر قمعها الداخليوأيدولوجيتها في معادتها للدين والاخرى لتبرير هيمنتها وطغيانها الخارجي تحت غطاء تبشيرها بالعلمانية والديمقراطية دين جديد لها . في الشرق وعالمنا العربي لم يحدث ذلك الصراع بين الدولة وسلطتها الحاكمة مع المؤسسة الدينية كونها ظلت دوما في خدمة الحاكم وعندما بدئت الدول القطرية بالتشكل بتأثيرات الخارج وعلى وقع الدعوات القومية والوطنية والقطرية وبزوغ مبادئ الديمقراطية والتحرر وسيادة الشعب كمصدر للسلطة والاحساس العميق بالتأخر عن الغرب ومحاولة تقليده وتبني نظرياته وافكاره المختلفة من الشرق والغرب كانت العلمانية بنكهة الاستبداد الشرقي لتتحول العلمانية الى دين جديد وفكرة معاداة الدين هي عنوان العلمانية هنا حتى من اولئك القابلين باستبداد وظلم السلطة بينما قضية الافراد والمجتمع هي الصراع للحصول على حقوقه المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل تحالف الانظمة الاستبدادية مع المؤسسات والجماعات الدينية لتغلف الطغيان بغطاء ديني يجعله مقبولا كقضاء الهي لا يجوز الاعتراض عليه وتكون قضية فصل الدولة عن استغلال الدين وتوظيفه لصالح مصالح سلطوية لحاكم او فئات اوجماعات بعيدا عن قيمه الحقيقة كمنظومة اخلاقية وقيمية وروحية وايمانية يعتنقها الافراد بإرادتهم الحرة وتتبناها المجتمعات بالرضى والقبول المجتمعي ولا يحق لأي كان ان يفرضها عليهم بالقبول او بالرفض . ان مشكلة مجتمعاتنا وبلداننا وشعوبنا وسبب تأخرنا في كل المجالات هو اننا نفتقر الى التفكيرالعلمي والفكر العملي وهذا موضوع يطول النقاش فيه.