لكم هو صعب على النفس توديع رجالٍ، نحن أحوج ما نكون إلى وجودهم معنا، في هذه الأيام الحالكة. إذ نفقد برحيلهم عنَّا جزءاً من قدراتنا العاقلة ونماذجنا الملهمة، نفقد اتزان العقل وموضوعية التفكير وشمول الرؤية وبعد النظر ورقي الأخلاق واستقامة السلوك. صفات ومناقب جسدها الصديق الزميل الراحل محمد بن محمد مطهر، في تفكيره وسلوكه، بتلقائية مثيرة للاندهاش. جرى آخر حديث لي معه في صنعاء عبر التلفون. كان موضوعه استقالته من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. وفهمت منه أن دواعي استقالته، هي عدم القدرة على العمل تحت ظروف وتدابير إدارية مستحدثة، جعلت قيامه بعمله، بالشكل الذي يتفق مع رؤيته وفهمه لطبيعة المهمة الملقاة على عاتقه، أمراً صعباً. استقال دون ضجيج إعلامي، ودون ادعاء، وترك موقعه الرسمي بنفس الهدوء، الذي اتسمت به حياته كلها. انسحب محمد مطهر من دائرة العمل الوظيفي وغادر الوطن إلى منفاه الاختياري في الخارج، إلى ماليزيا، وهو الرجل، الذي كان يحظى باحترام الجميع، بمن فيهم كل المتنازعين على السلطة، بمختلف تياراتهم واتجاهاتهم السياسية. واختار أن ينأى بنفسه عن دوائر الصراع، ويبتعد عن عفن الاصطفافات المتخلفة، التي حرص دائماً على أن يكون بعيداً عنها. وفي حين استل كثيرون أقلامهم وشحذوا السنتهم، للترويج للحرب وإذكاء نار الفتنة ونشر الكراهية وإحداث انقسام اجتماعي، كل من موقعه المنحاز إلى هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع الداخلية والخارجية، اختار الأكاديمي الوطني الإنسان أن يضع نفسه في دائرة الرفضين للحرب الداعين إلى إيقافها المنادين بتفاهم اليمنيين فيما بينهم وإنقاذ بلدهم وشعبهم عبر الحوار المسؤول، المؤدي إلى بناء الدولة، القائمة على الشراكة الوطنية والمواطنة المتساوية والاحتكام إلى الديمقراطية، ليختار الشعب، اختياراً حراً، ممثليه وحكامه. وخلال إقامته في منفاه الاختياري (ماليزيا)، الذي انتقاه بوعي، ليكون بعيداً عن الدوائر الضالعة في حرب اليمن، المشاركة في تدميره، بقينا على تواصل شبه أسبوعي، عبر وسائل التواصل الاجتماعي. سواءً وهو في شمال ماليزيا أو لاحقاً وهو في العاصمة، كوالا لمبور. وكنت حريصاً على موافاته بكل ما يصدر عن التجمع الوطني لمناضلي الثورة اليمنية، ثم عن جماعة نداء السلام، من مواقف وبيانات ومقالات، تنسجم في مضامينها مع موقفه الرافض للحرب، المتطلع إلى السلام. ولم أكن أعرف عن مرضه شيئاً، ولم يكن مهتماً بالحديث عنه. فالمرض العضال، الذي أصاب الوطن بأجمعه، كان يشغله عن شأنه الخاص. وحتى في رسائله القصيرة كنت ألمح من خلال عباراتها بسمته الدائمة ووجهه البشوش، الذي لم أره يوماً عابساً أو متجهماً. ولعل هذه خاصية ميزت الفقيد المربي الإنسان محمد بن محمد مطهر عن كثيرين. كان باسماً بشوشاً بسيطاً لبقاً ودوداً، يداري غضبه، إن غضب، ببسمة رقيقة وعبارة لا تخلو من اللطف والظرف، متجاوزاً بهما دواعي الغضب والانفعال. بعض الناس يعيش بهدوء ويعطي بسخاء، يصنع الخير ويمضي في طريقه، دون أن يلتفت إلى الخلف، ثم يغيِّبه الموت، فيشعر من حوله بحجم الفراغ الذي تركه في حياتهم. وفقيدنا هو من هذا الصَّنف النَّادر من البشر. فقدناك أيها العزيز، وما كنا ندرك أن موتك سيثير في نفوسنا هذا القدر من الحزن وهذا المدى من التفكير والتأمل. رحمك الله رحمة الأبرار الأتقياء الأنقياء الصالحين، وأسكنك فسيح جناته. وهنيئاً لك بما خلفته من ذكر طيب وقدوة صالحة. وإنا لله وإنا إليه راجعون.