«انتحرت»... تبرير جاهز لكل جريمة شرف تبلغ أجهزة الأمن في اليمن، وتلك التي «لا تفوح رائحتها» تنتهي بمواراة جثمان الضحية الثرى. ويرجع ذلك إلى أن جرائم شرف كثيرة لا تُرتكب بحق النساء دفاعاً عن العرض وغسلاً للعار لجريمة مشهودة، وإنما بناءً على شبهات وظنون وإشاعات، تجد طريقها إلى مسمع منفذ الجريمة وفكره، أباً كان أم أخاً، زوجاً أم قريباً. فالمجتمع اليمني معروف بأنه مجتمع تقليدي، يمنح الشرف قيمة فردية، لذا فإن آثار التفريط فيه لا تمس الفرد نفسه، كما هي الحال بالنسبة إلى قيم مثل الأمانة والشجاعة والكرم وغيرها، بل تمتد لتشمل كل أفراد الأسرة والتنظيم الاجتماعي عموماً (القبيلة). وعليه، تقع مسؤولية التخلص من «المرأة» المتسببة ب «التفريط»، والتي تفسر فعلتها، صغرت أم كبرت، بأنها انتهاك لقواعد الشرف ومعاييره، تقع على الأفراد الذكور في الأسرة. ولذا، تصنف الدراسات المختصة في اليمن جرائم الشرف بأنها جرائم عائلية في المقام الأول. يقول الدكتور علي وهبان، الطبيب في مستشفى الأمل للطب النفسي بصنعاء: «لدى الرجل اليمني اعتباران تجاه التعاطي مع هذا الأمر هما: الاعتبار الديني ويعني ان هذه الإنسانة ارتكبت ما حرّمه الدين، والاعتبار الآخر اجتماعي يتمثل في مخالفة العادات والتقاليد المتعارف عليها». ويذكر أن الشحنة الناتجة من التركيز على هذين البعدين، الدين والناحية الاجتماعية، تمنح الشرف قيمة عالية، «ولذا، فإن الإقدام على القتل حفاظاً على هذه القيمة يصبح ممكناً»، مشيراً إلى أن التعامل يختلف باختلاف ما ارتكبته المرأة ويتخذ أشكالاً بحسب حالها الاجتماعية، «فحال المتزوجة ليست كحال غير المتزوجة». ويقول: «عندما يشك الأب أو الأخوة بسلوك أختهم غير المتزوجة، كأن يعرفوا أنها على علاقة حب مع شاب، يسارعون إلى تزويجها من أحد أقاربها أو من شخص آخر من دون موافقتها. وبذلك، هم يتأكدون أولاً، من عذرية الفتاة إذا لم يشتكِ زوجها من عدم عذريتها، وثانياً، يقطعون الطريق على المرأة من أن تستمر في العلاقة مع الشخص الذي تحبه». وهو ما يفسر أن مفهوم الشرف في اليمن لا يتوقف عند حد ارتكاب المرأة فعلة فاضحة ومحرمة كالزنا، سواء كانت متزوجة أم غير متزوجة، بل يمتد ليشمل كل مخالفة لقوانين المجتمع وأعرافه التي تحدد العلاقة بين الجنسيين. وما يزيد الطين بلة تجاه جرائم الشرف في اليمن، أن معظم النساء اللائي يتعرضن لمحاولات قتل نتيجة الشك في سلوكهن، ويحدث أن ينجين من الموت، لا يفصحن عن حقيقة ما حدث لهن. تقول نوال خليل، وهي طبيبة في مستشفى خاص بصنعاء: «معظم النساء اللاتي يتعرضن لمحاولة قتل بأسلحة نارية أو الطعن بآلات حادة لا يقلن الحقيقة، ويرددن ما يقوله أقاربهن حول أن الجريمة حدثت من طريق الخطأ، كأن يكون أحد الأطفال أطلق النار وهو يلعب بالسلاح. وإذا كانت الإصابة كدمات تبرر بأنها انزلقت على السلم... وهذا غير صحيح، فالانزلاق لا تنجم عنه جروح غائرة وعميقة. أما الطلق الناري فيمكن تحديد ما إذا كان المصاب به هو من أطلق الرصاص على نفسه، الرصاص، أم أن شخصاً آخر هو مطلق النار». وعلى رغم أن البلد يشهد، منذ تسعينات القرن العشرين، تغيراً على مستوى البُنى والعلاقات الاجتماعية، وتغيراً كبيراً في دور النساء في المجتمع وحقوقهن والمطالبة بها ومناقشتها، ما زالت الأطر الثقافية التقليدية ومنظومة القيم الاجتماعية تشكل المرجع الضابط لعلاقة المرأة بالرجل، ومكانتها في المجتمع. وتلاحظ دراسة صدرت أواخر عام 2005 حول جرائم الشرف في اليمن، نفذها «منتدى الشقائق العربي لحقوق الإنسان»، بالتعاون مع منظمة «سورجير» السويسرية، أن جرائم الشرف بدأت بالتزايد منذ تسعينات القرن العشرين، «وهذا يعني أن هذا النوع من الجرائم يعكس بوضوح الازدواجية الحضرية في القيم الاجتماعية»، اذ تزايدت ظاهرة التحضر في اليمن خلال العقدين الماضيين، وتزامن معها أو ترتب عليها مقدار من التحديث للبنى والعلاقات الاجتماعية، ومع ذلك فإن هذه البنى والعلاقات التقليدية لم تختف». وفي الدراسة ايضاً أن «عملية التحديث التي شهدتها أدوار المرأة لم تترافق مع تحديث في الأطر الثقافية ومنظومة القيم الاجتماعية التي تحدد مكانتها في المجتمع اليمني، وتالياً، لم يترتب عليها تغير في طبيعة علاقة المرأة بالرجل ومعايير هذه العلاقة، وإنما ظلت الثقافة التقليدية تمثل إطاراً مرجعياً يحدد مكانة المرأة وعلاقتها بالرجل، بل ترتب على ازدواج التقليدية والحداثة تعاظم تأثير الثقافة التقليدية». وتعاقب الأسرة اليمنية الفتاة التي تدخل السجن بالقتل سواء اتهمت بقضية مخلة بالآداب أو بأي قضية أخرى، وإن لم يتعد الأمر حد الاتهام. وفي أحسن الأحوال، ترفض الأسرة استقبال بناتها اللواتي يتهمن بأي قضية، بعد انقضاء فترة عقوبتهن في السجن، وتتبرأ منهن، فيضطررن إما للجوء إلى قضاء بقية أعمارهن في السجن، واما الخروج إلى المجتمع وامتهان الدعارة.