من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر نهتف لبيك عبد الناصر ، وها هو اليوم وطن المحرومين والفقراء ينادي ابنه الذي غيبه الموت منذ ثمانية وثلاثين عاماً كأنما الأمس القريب ، بل هو الآن في حاجته أكثر من أي وقت مضى . هو القائد ليس ككل القادة ، وهو المناضل ليس ككل المناضلين ، وهو الرجل ليس ككل الرجال . صاحب الهامة العالية والمقام الرفيع ، ابن الشعب وحبيبه وصفيه ، الجسور في مقارعة الخطوب ، الصادق في ميدان المواجهة ، المتمكن من نبض الناس وصاحب البوصلة التي لا تنحرف . قيل فيه وعنه الكثير ، وسيقال أكثر طالما بقيت لنا عقول وقلوب وذاكرة . الصوت الذي ما علا عليه صوت ، والعربي الذي عاش ومات لعروبته ، والمصري الذي جعل مصر قبلة الأحرار والثوار في الوطن العربي وكل العالم ، والفارس الذي قدم كل حياته ليجعل من أمته طليعة الأمم والحضارة كما كانت ، ولينهي عهد الذل والهوان ويعيدها لمكانها الطبيعي موفورة العزة والكرامة . تتسابق الذكريات ويلح الواقع بأبجدياته اللعينة فيرتبط الأمس باليوم وتتراءى لك صور الزعيم الخالد جمال عبد الناصر وهو يهتف وينادي ، فمرة تراه فوق منابر المساجد والأزهر على وجه الخصوص ، وتارة أخرى تراه بين الجنود على خط النار في الجبهة الأمامية ، وثالثة في غزة وهو يتحدث لأفراد جيش التحرير الفلسطيني ، ورابعة وهو في معقل العروبة وحصنها المفترض جامعة الدول العربية ، وخامسة وسادسة وعاشرة . الرئيس يغضب وتعرف الناس أنه غاضب لجرح أحدثه أحد الحمقى في جسد الوطن ، الرئيس يسخر فتسمع أنها تطال من ارتضى لنفسه ولشعبه الهوان ، الرئيس يضحك أو يبتسم فنفرح جميعاً لأنه الفرح المرتبط بنجاح الأمة أو انتصارها في أحد معاركها الداخلية في البناء أو الخارجية ضد أعداء الإنسان والبناء . لم نسمع أنه سعى لمجد شخصي أو ثروة ، كان حين يخاطبنا نشعر أننا قبضنا على الحلم بأيدينا ، وأنه أصبح قريب المنال ، كان يعوضنا عن كل ألم وغصة إحباط ، بنور ساطع وأمل يلون حياتنا فيبدو لنا الوطن العربي قرية صغيرة نستطيع أن نحاور فيها أبعد جار كما أقرب الجيران ، ومن موريتانيا في أقصى الغرب إلى عدن في أقصى الجنوب الشرقي كنا نسمع نبض الشارع يهتف لعبد الناصر ، وعندما يتعرض أي قطر عربي لمحنة أو تقع به نازلة تتجه العيون للقاهرة لتسمع بشأن الحدث رأي وموقف القائد والزعيم الذي صدق أمته وشعبه الحب والوفاء فصدقته الأمة والشعب الحب والوفاء . هل نتحدث عن إنجازات عبد الناصر أم عن عطائه لامته أم عن مواقفه الشجاعة وكلماته المليئة بالعزة والفخار؟ أم عن مساهماته الإنسانية شرقاً وغرباً ؟.. عن نشاطه الآسيوي أم عن نضاله الإفريقي؟ ،،، أم نتكلم عن انكسارا ته وحجم التآمر عليه وكيف مثل هدفاً لسهام المتربصين بالأمة عساهم يصيبوها في مقتل إن أصابوه في مقتل؟ … لم تتجسد أمة في رجل عبر التاريخ كما تجسدت أمتنا العربية بشخص عبد الناصر ، ولم تحب هذه الأمة قائداً من قادتها مثل ما أحبت عبد الناصر . ويبقى السؤال مشرعاً : لماذا رغم مرور كل هذا الوقت تجد المشروع العربي بكل مكوناته الأساسية ما زال مرتبطاً باسم عبد الناصر ومشروعه ؟؟ ولماذا لم نشاهد حتى الآن أي بديل جدي وممكن لبرنامج عبد الناصر القومي، والذي يستقي مقومات نجاحه ومبررات تكوينه من البرنامج الوطني الذي اختطه جمال عبد الناصر لمصر وحاول تعميمه في المنطقة العربية ؟ ولماذا لم ينل أي زعيم أو قائد عربي ما نال الرجل من الهجوم والمكائد والتآمر ، الهجوم على غير جبهة، مثلما نال الزعيم الخالد جمال عبد الناصر ؟ لعل الإجابة بسيطة بساطة عيش الرجل وعصاميته وطهريته ، الرجل يمثل أمة ، وهذه أمة ليس من مصلحة الغرب والاستعمار أن تنهض ، إذن نضرب رمزها وتجربتها الصادقة والواعدة الوحيدة ،أي نضرب مصر وعبد الناصر وقد فعلوا . نحتاج لعشرات المقالات وربما المئات إن أردنا تعداد ما أنجز الرجل وما خاض من معارك قومية ووطنية ، فهذه مجالها الكتب والدراسات ، لكننا لا نستطيع إغفال الحديث عن أهم ركائز مشروعه الذي لا يزال صالحاً حتى الآن والذي بتنا في أمس الحاجة له ، كما لا يمكننا التغاضي عن تجديد العهدة الناصرية وترميمها مجدداً بعد ما أصابها من التشويه والتزوير والانحراف على يد بعض من اعتاشوا ذات يوم على شعاراتها وبريق إنجازاتها وفي ظلال قائدها الكبير وباسمه ، هذه العهدة التي تبقى ذلك العهد وذلك الدين في أعناقنا تجاه امتنا وتجاه مستقبل شعوبنا العربية المغلوبة على أمرها . في كلمته أمام أفواج المقاومة الشعبية الفلسطينية بقطاع غزة سنة 1957 يقول عبد الناصر : ” القومية العربية- أيها الإخوة- هي السلاح الرئيسي — القومية العربية التي تمتد من مراكش إلى بغداد ، هذه هي سلاحنا وهذه هي قواتنا ” ويستطرد في نفس الخطاب : ” القومية العربية هي درع كل وطن عربي وكل بلد عربي ، حتى يستطيع المحافظة على كيانه ” . وعلى هذا المنوال يمضي القائد التاريخي لينبه الأمة لمكمن قوتها وكيف تحافظ على كيانها وتحمي تراثها وحضارتها . وفي خطابه بدمشق وأيضا أمام وفد فلسطين بتاريخ 24 / 3 / 1959 ، وبعد أن يتحدث عن الوحدة كسلاح من اجل فلسطين والأمة العربية وكرامتها وعزتها يقول في معرض حديثه عن هزيمة 48 ونكبة فلسطين : ” واني أرى بينكم- أيها الإخوة- بعض الوجوه التي كانت في هذه الأيام معنا جنبا إلى جنب في فلسطين تقاتل ، كنا نصبر على هذه الهزيمة وعلى هذا الإذلال بمرارة عميقة في قلوبنا ، وكنا نشعر كجنود في المعركة أن هذه الهزيمة وهذا الإذلال ليست من فعل الصهيونية والاستعمار ، ولكنها من فعل أعوان الاستعمار ، ومن فعل الحكام الذين تنكروا لقوميتهم وعروبتهم فتخاذلوا عن نجدة إخوانهم بل تظاهروا بنجدة إخوتهم ثم طعنوهم في الخلف ” . ويقول في نهاية خطابه : ” وبالنسبة لفلسطين وشعب فلسطين لابد أن يتحد شعب فلسطين دا الأساس الأول ، كل من يحاول أن يبذر الخلاف لمنفعة شخصية يبقى طبعا خان قضية فلسطين ” . إذن في صلب برنامج عبد الناصر تقع قضية فلسطين والقومية العربية والوحدة العربية ، ولكل قسم منها مقومات ومرتكزات وطرق للتحقيق منها السياسي الفكري ومنها الاقتصادي التكاملي ومنها العسكري وكل مقومات القوة التي كان دائما يرى أنها ضرورية لإحقاق الحق . وفي هذا لم يدع ناصر إلى مهادنة الاستعمار أو مجاراته أو التسليم له، بل إلى القتال ضده في كل مكان وبكل صورة ممكنة ، وكان يعتقد أن المكونات القومية لبرنامجه تؤهل هذه الأمة لإمكانية التخلص من كل رواسب الاستعمار القديمة وحالة التبعية التي وجدها الرئيس الراحل فور تسلمه زمام السلطة في مصر اثر ثورته المباركة عام 1952 . وبوضوح اكبر لم يكن الرجل واقعيا على طريقة حكامنا الأشاوس في هذا الزمن الأغبر ، وعلى هذا الصعيد تحديداً كان تحدي الكرامة والعنفوان،،، وخاض الرجل معارك شرسة تكللت غالبيتها بالنصر سواء في الجزائر أو اليمن أو أي قطر عربي آخر كان يجاهد من اجل استقلاله ، وكذلك في معارك وطنية داخلية لكنها ذات بعد قومي كتحرير الاقتصاد من التبعية والارتهان ،ومعارك وطنية خارجية ذات بعد قومي مثل تأميم قناة السويس . وفي كل الإصلاحات الداخلية المرتبطة بمصلحة الوطن المصري كان الرجل شديد الواقعية بدرجة كبيرة ومرناً جداً ومدركاً لأبعاد كل خطوة أقدم عليها ، وليس كما يصور البعض عن جهالة بأن الرجل كان متسرعاً في أخذ بعض القرارات كالتأميم مثلاً أو قانون الإصلاح الزراعي ، بل كان متوازناً ومدركاً سلبيات كل قرار ، لكنه كان يوازن ويقارب بين التغيير على قسوته وما يصاحبه من ارباكات وبين بقاء الحال وما فيه من ظلم وإجحاف بحق أغلبية الشعب الذي منحه ثقته، والذي يقدم خيرة أبنائه دفاعا عن الوطن والقضية . وكانت هناك طبعا قرارات وإجراءات يجمع عليها المحللون والمراقبون كيفما كان انتماؤهم وولاؤهم ، مثل تمصير البنوك وإداراتها وتحكم الدولة في مفاصل الاقتصاد الرئيسية ، أو ما نسميه الاقتصاد الموجه عبر ما كان يعرف ولا يزال بالخطط الخمسية وغيرها من الإجراءات التي لا يمكن للثورة أن تنجح وتستقر لها الأمور بدونها ، ولعل معركة بناء السد العالي ونتائجها والحديث الذي لا زال يترى والاجتهادات المختلفة حول صوابية وجود السد يظهر إلى أي مدى كان الوضع كبيرا وفي حاجة لرجل كبير ولديه الهام كعبد الناصر . إذن فقد كان البرنامج واضحاً وهو مازال كذلك ببعديه القومي والوطني ، وما زلنا في حاجة ماسة لجعل هذا البرنامج عاماً لوطننا العربي من أقصاه إلى أقصاه وهو برنامج بملامح عربية أصيلة وبلا قواعد أمريكية لحمايته أو مظلة إقليمية لستر عوراته ، ولا إلى أنظمة شمولية لضمان صيرورته ونجاحه ، بل إلى عقول صافية وقلوب نظيفة ووجدان عربي ينتصر لكرامة وتاريخ هذه الأمة ويقدر زعماءها وإنجازاتهم الكبرى وعلى رأسهم القائد الفذ جمال عبد الناصر . نحتاج إلى طليعة ناصرية . وحول عهدته التي اشرنا لها في معرض حديثنا عن برنامجه لابد أن نظهر إلى أي مدى كان القائد الكبير مقتنعا بما ينادي به ومؤمناً بصوابية مسعاه ، الأمر اللازم والشرط الضروري لنجاح أي مسعى وتحقيق أي هدف ، هذا الإيمان الذي كان يصل عنده حد القداسة . لقد لخص الزعيم الخالد جمال عبد الناصر عهدته لهذه الأمة على النحو التالي : ” لقد كان ضياع فلسطين مسؤولية كل فرد وكل دولة وكل حكومة من حكومات وأفراد الوطن العربي ، وعليه فان مسؤولية استرداد فلسطين هي مسؤولية كل الأمة وهو أمر ملزم لنا جميعاً ، كما نهى عن استفراد أي دولة مهما كانت مكانتها بالتفاوض أو المعالجة المنفردة للقضية الفلسطينية تحت أي شعار ومهما كانت الأسباب . ورأى عبد الناصر أن تحرير فلسطين هو المدخل المنطقي لتنفيذ برنامجه القومي والوطني . وقال الرجل حرفياً : ” عندما طعنت فلسطين طعن كل منا في شعوره ووطنه ” . تمر اليوم الذكرى الخامسة والخمسون لثورة يوليو المجيدة ونغتنمها فرصة طيبة لتأكيد ولاءنا لأهادفها ومبادئها … ولاءنا لبرنامجها وعهدة قائدها القومي ، بطل العروبة الذي ما أسقطته النوازل والخطوب ولا المؤامرات والهزائم العسكرية ، بل جعلته أكثر صلابة وأكثر تمسكاً بأهداف الثورة ومنطلقاتها الوطنية والقومية الكبرى ، ولنضع على قبره وردة حب ووفاء له ولمصر العربية وشعبها العربي الأصيل ، والذي لا يزال محافظاً على حبه لأمته برغم كل المعاهدات والاتفاقات التي تطوق عنق مصر ، والذي تسعى قواها الناصرية والقومية والتقدمية والإسلامية وغيرها لتمزيق هذا الطوق وقذفه في وجه من صنعه ومن وضعه . وستبقى ثورة يوليو منارة لكل عربي شريف ولكل حر يسعى نحو الإنسان،،، مستوفي الكرامة،،، كما أراده جمال عبد الناصر ،،، وكما أرادته ثورته المباركة . زياد أبوشاويش [email protected]