المتأمل في البدايات الأولى للخلق يرى كيف تأسست سنن ونواميس الطبيعة على الصراع من أجل البقاء، عندما قتل قابيل هابيل بدافع الحسد وانطلاقا من الأنانية وحب الذات والتعصب كصفة بشرية في الإنسان (الأخت الجميلة كانت من نصيب هابيل ليتزوجها) ففي هذا الحدث تجذرت بذور النزعة التعصبية الأولى التي حفزت الناس من بعد للتقاتل عندما صاروا شعوبا. آدم كان ذا أسرة فاقتتلت، ومن الأسرة نشأت الجماعات الصغيرة فتناحرت، ثم تسالمت، وتكتلت عندما بان لها خطر من الناس أكبر انضمت وشائج القرابة فكانت القبيلة، اختصمت القبائل على الماء والمرعى يعني على خير الأرض، وعليه تقاتلت، والنصر في الحرب كسب وفخر والانهزام خسارة ومذلة، فكان التفاخر بالبطولة حتما، فزينوها وردوها إلى الأرومة، وكل قبيلة تدعي أنها خبير قبيلة والأصل عندهم ميزان القيم في الحاضر والمستقبل كميزان ثابت، الفاضل لا ينجل إلا الفاضل مهما اختلف الزمان، والنجس لا ينجب إلا نجسا مهما تباينت العصور، ظنت القبيلة أنها الأحق أثراً بخير الأرض فقامت تقاتل عليه، ابتدعوها أصالة قديمة لها الشرف كله ولها الغلبة والعزة دائما وأبدا.. وهذه ما زالت مشكلتنا في القبيلة والمتميزة أكثر في اليمن.. جاء الإسلام فوحَّد العرب فلا جاهلية ولا قبيلة، يقول أحد رواد الفكر العربي: إن الإسلام وحد الأمة نعم، ولكن إلى حين، لقد كانت القبيلة أشد من أن يطفئها القليل من السنين وكثيرا ما كان الحس بالقبيلة أقوى من الإحساس بالأمة، ففعل بكيان الدولة ما فعل، نكبات وتمزق في كل الديار.. تغير الصراع في عصر القوميات واتفق الباحثون على أن القرن 19 هو عصر القوميات، والأصح أنه عصر القوميات في أوروبا، وهو عصر الحداثة والعلم وعصر الاستعمار الغربي لبلدان العالم الثالث، حيث النهضة جعلت البلدان الأوروبية تعتز بهويتها القومية فاستعمرتنا من أجل نهوضها. في نهاية ذلك القرن (19) قلصت دول الغرب من سيطرة الكنيسة وقدسية رجال الدين، وطغت عليها النزعة المادية واقتصاد السوق في مجال الصراع هذا أدى إلى حربين كونيتين لم يشهد لهما التاريخ مثيلا إلى أن أرست هذه الدول على مسميات ونظم جديدة في العلاقات والتعايش الحضاري بين دولها وفي داخل مجتمعاتها تقوم على مبادئ الحقوق الإنسانية.. في المجتمعات العربية انتشر فكر الاتجاه القومي مع منتصف القرن الماضي، كان الدين هو المحرك لرواد عصر النهضة العربية منذ بداية القرن الماضي أو قبله بقليل، استنهض هؤلاء الرواد في الفكر العربي الإسلامي الشعوب العربية والإسلامية باسم الدين، وكان دافعا للتحرر من الاستعمار تحت الرايات القومية والوطنية والدينية فأخذ العرب من الغرب حداثته وتقدمه التقني مع المحافظة على التراث الإسلامي وتقاليده، وهناك من تماهى مع الفكر الغربي وتجاوزوا تراثه التقليدي، إلى أن تلاشى الفكر القومي العربي، كما تلاشى -أيضاً- الفكر القومي العربي الإسلامي ثم أخذت العلاقات بين الدول بعداً آخر تمثل في التكتلات والتجمعات والاتحادات والتحالفات التي تقوم على أسس ثابتة وواضحة تتميز فيها الدول بخصوصيتها وهوية شعوبها ووطنيتها وكذا الأقليات فيها، لكن بدون إذابتها وثقافتها وتاريخها وخصوصيتها ضمن الدول الأخرى وكذا الأقليات فيها، هذه الإشكالية وقفت أمامها الأممالمتحدة وشجعت على إقامة التجمعات أو التكتلات لحماية خصوصيات البلدان الصغيرة أو الأقليات والجماعات المختلفة، ولكن ذلك كان وفقا لأسس التعايش ومبادئه الحضارية، أهمها الحقوق الإنسانية.. ففي البلدان العربية كانت النزعة القومية وسيلة التحرر من الاستعمار الغربي ناهيك عن طموح الوحدة العربية، لكن القومية العربية تحولت إلى أنظمة ملكية وحكومات استبدادية وصولا إلى بداية ثورات الربيع العربي الذي لم تتحدد ملامحه بعد، البلدان العربية خلطت، وما زالت بين الفكر القومي والفكر الديني العقائدي وبين الوحدة العربية ووحدة الأمة وبين الأمة والدولة، هذه الشعارات أو المسميات التي تدعيها البلدان العربية ولا تمارسها تطرح بدون ضوابط ولا مرجعيات قيمية أو حضارية، كما هي المنفعة الفردية في الغرب، بعد أن هتكت الستر ومزقت الحجب وأصبحت بلدان الغرب بعد الحروب الكبرى وحربين عالميتين غالب ومغلوب، ثم عادوا إلى مبادئ التعايش الإنساني العصري القائمة على الحقوق، فأخرجوا المغلوب من غلبه، وتحولوا إلى المغلوب لهم نحو الشرق ليبقى الصراع.. لكن العرب حولوا الخط بين الأفكار إلى مبادئ للمصالح السياسية أو الذاتية أو القبلية، وانتهوا إلى التمزق والشقاق، فالمستفيد هو الغرب أو الخارجي بشكل عام بعد أن أصبحنا محاور وبؤر صراع لهم لتنفيذ أجندتهم بالوكالة، ونحن نتكلم عن التوحد والوحدة بشكل عام، بينما الوحدة تعني ببعدها الديني أو القومي أكثر ما تعنيه التضامن أو التكاتف أو التلاقي عند المصالح أو التقاطعات بين الدول على أساس المنافع المشتركة والاحتماء المتبادل من العدو أو من أجل تكامل القوى لاستمرار المصالح وبقائها ومن أجل النهوض. لقد مزقنا عرى الوحدة العربية بكثير من الاختلافات وتصادم الرؤى وتوجهات المصالح. فرغم ضرورة قيام مجلس التعاون الخليجي كمجلس تعاون حمائي وتكاملي لدوله الست إلا أن هناك مغالبات وتعارضات بين أعضائه إذ نعتبره الأفضل على مستوى الوطن العربي وإذا قارناه بالوحدة اليمنية فهي الأسوأ، ولم يبق من هذه الوحدة إلا المسمى ولا يوجد فيها أي عامل يؤهلها لقيام تحالف أو تجمع أو تكتل، ناهيك عن مضمون الوحدة لأن الأسس والمبادئ والقيم والعلاقات البشرية التي يقوم عليها هذا التلاقي او التقاطع أو التكامل للمصالح، قد مزق على الواقع وفي النفوس، وما زلنا نبحث عن قانون سحري أو قوى خارقة تعيد إلينا الوحدة اليمنية بمعناها الحقيقي، وقد نتوهم أن الحوار هو ذلك الأسطورة الذي يحل مشكلات الواقع بينما هو ليس أكثر من خيارات أو بدائل للحلول نتوافق ونتواضع عليها، بينما النظرة القديمة إلى الوحدة ما زالت على حالها، إذا كان اليوم المطلوب هو البحث عن وحدة المصالح لا وحدة الضم والإلحاق، ووحدة تضع الناس على أسس ومبادئ التعايش الحضاري ويكون الناس فيها على مسافة واحدة من تلكم الحقوق والمساواة وتكافؤ الفرص وغيرها فلن يكون ذلك، طالما يقودنا تفكيرنا المتخلف للإمساك بالزناد كل في وجه الآخر، لأن الصراع هنا هو صراع البقاء للأقوى قبليا. والله ولي التوفيق