الاعتداءات المتكررة على منتسبي السلطة القضائية تؤكد حقيقه مفادها أن هيبة القضاء انهارت، وأن الدولة تحتضر مجدداً ، لا يمكن أن نجد تفسير مُقنع لتلك الاعتداءات غير هذا ، وعندما لا تستطيع الدولة أن تحمي القاضي ، ولا يستطيع القاضي أن يدفع عن نفسه شر المتخاصمين ، فالأولى للقاضي والأكرم له وللقضاء وهيبته أن يلزم داره.... لو فتشنا قليلاً في هذه الاعتداءات وطبيعتها، لوقفنا على مجموعة من النتائج، أهمها أن من شجع على هذه الاعتداءات بدرجة أساسية هي حالة التفلت الذي تعيشها الأن الدولة بمكوناتها التنفيذية بالذات من شرطة وجيش وسلطة إدارية وغيرها ، فلم يعد المعتدي يخاف من العقاب، لأنه يجد نفسه أقوى من السلطة بجيشها وسلاحها، وأرفع شأناً من القضاء وأحكامه ، " فمن أمن العقوبة ساء الأدب". ومع هذا يسعى البعض جهلاً، ومنهم قصداً من باب المكايدة الحزبية، والمناكفة الشخصية، التصوير للناس أن النائب العام يستطيع أن يقضي على كل التجاوزات بالبلاد ، يوقف كل المخالفات ، يضبط المتفلتين ، ويصادر سلاح مليشيات القبيلة ، ويقدم مشائخ الظلم للعدالة ، ويحبس ضباط النكبات والحروب ، ويوقف تفجير انابيب النفط ، ويعيد التيار الكهربائي ، ويوقف تنفيذ الأحكام الباتة ، ويمنع الطائرات بدون طيار من القتل خارج القانون ،...إلخ بلا شك أن النائب العام يستطيع القيام بذلك بل وأكثر، وجزء كبير من هذا يدخل في اختصاصه ، لكن في حالة واحدة عندما يكون رئيس الجمهورية يستطيع هو أولاً القيام بذلك!!!؟ إن الأحداث التي تعيشها البلاد في ظل الظروف الحالية استثنائية ، والجميع يعلم أنه خلالها لا يمكن للدولة بكامل سلطاتها ان تقوم بدورها كما يجب ، فإذا كانت جحافل الجيش بعدته وعتاده لم تستطع وقتها حماية صندوق الانتخابات الرئاسية من عبث مجموعة من الصبية المدفوعون من الحراك المسلح اظهرتهم الجزيرة وأخواتها وهم يرمون صناديق الانتخابات الرئاسية ، ويمزقون صورة الرئيس المرشح حينها عبدربه منصور ، فماذا سيفعل القاضي بجبته وعمامته...!؟ ولنبتعد عن الشطح والمزايدة ، فعلى سبيل المثال لم تستطع الدولة من عند مجلس الوزراء والآمنين السياسي و القومي من تفكيك لغز المغيبين قسرياً والمختفين اثناء احداث العام2011م وما قبلها بفعل مجموعة من العوامل الغامضة والمعقدة ، رغم رغبة هذه الجهات الملحة لتحقيق ذلك ، فهل يأتي القضاء ويعيدهم من غيبتهم ويبعثهم من جديد إلى الحياة!!!؟ ثم لا يعقل ولا يقبل أن كل من رفض له طلب من محكمة أو نيابة إما أن يعتدي على القاضي أو عضو النيابة أو يجمع له مجموعة من الأقارب والندماء وخرج بمظاهرة مصورة يطلب عزل القاضي أو عضو النيابة ، وللأسف يصوره الإعلام بإنه المناضل المضطهد المظلوم والمنصور بإذن الله.. نعم لا جدال في أن القضاء ضعيف ومخترق ، والنيابة جزء من هذا القضاء ، والقضاء ككل جزء من منظومة الدولة التي ذابت قيمتها وهيبتها بفعل سياسات النظام السابق؛ الذي صنع رؤوس قبلية وانتهازية، وصور لها أنها فوق مستوى الدولة وأنها مرجع للقضاء لا العكس، وأفسد كذلك القضاء بفعل تخاذل قضاة لا يدركون معنى قدسية منصة الحكم أغراهم الحاكم وقتها بالمنصب والمال فسبحوا بحمده كثيراً، وسابقت أشباحهم الريح للتشرف بالسلام على حضرته فهدموا " بالوكالة" جزء كبير من هيبة القضاء أمام العامة وحولوه لمطية يركب عليها نظام فاسد ومعتل ؛ أما الذي يحدث الأن أننا في ساحة لا تحكمها حدود، الكل يعارض والكل يحكم ، والجميع يمتلك مليشيات مسلحة ، وخزينة ممتلئة، وقناة فضائية وإذاعة وجريدة، ودعم وتأييد خارجي ، بمعنى أننا أمام أقطاب وتكوينات يمثلون جمهوريات مستقلة داخل دولة ، وجزء كبير من هؤلاء يفاخرون بعمالتهم للخارج، والوحيد الذي لا يمتلك حتى سلاح شخصي في هذا الخضم المضطرب هو القاضي المحترم النزيه الذي ربأ بنفسه من الشبهة ورفض أن يحمل سلاح الجريمة..!!! جميعنا نطمح بأن يكون لدينا قضاء قوي ونيابة "مبهررة بقوة القانون" فوق الجميع ، لكن هذا لا يمكن أن يحدث الا إذا وجدت الدولة أولاً بقضها وقضيضها ، أما في ظل الظروف الحالية التي لا يستطيع وزير الداخلية حماية مكتبة ، ولا يقدر وزير الدفاع على تغيير ضابط في معسكر ، تكون مطالبة النائب العام بأن يكون الخليفة المعتصم الذي يحرك جيش ضارب لنصرة امرأة مسلمة تحرش بها رومي في أقصى الأرض ضرب من الخيال وقفز على المعقول ، ومحاكاة لخيال يناطح الأحلام.. مايهم الحرص عليه الأن بقدر الإمكان هو في أن تبقى المناكفة الحزبية والمزايدة السياسية بين اطراف العمل السياسي بعيدة عن ما تبقى من القضاء!!! ، وهذه مسؤولية فخامة رئيس الجمهورية شخصياً، ثم رئيس وأعضاء مجلس القضاء، وأخيراً القضاة أنفسهم ، على الأقل ليبقى القضاء الملجئ الأخير عندما تتعقد الأمور، وتفشل القوى السياسية من حسم المواقف ، كما حدث مثلاً عند تشكيل اللجنة العليا للانتخابات ، فبعد أن اختلفت القوى السياسية في الوصول الى اتفاق لتشكيل اللجنة ، جاء تشكيلها من القضاة حلاً وفَّرَ الكثير من الجهد ، والوقت ، وتلقاه الجميع بالمباركة.. حشر القضاء في المماحكات السياسية الأن سيدفع ثمنه الجميع، لأن تأطير السلطة القضائية سياسياً ، وتقسيم مناصبها بين الأحزاب بمعياري المناطقية ، وسياسة التحاصص الحزبي ، كما حدث عند إعادة تشكيل مجلس القضاء في فترة سابقة من العام الماضي ، سيعني أن الدولة لا يمكن ان تقوم لها قائمة ، ووقتها سيتحول الوطن إلى غابة البقاء فيها للأقوى نسأل الله اللطف.. لا يمكن أن يلقى قضاء يحتكم مصيره إلى أطراف العملية السياسية قبول واحترام عند الناس ، ولن يصدق أحد أن قضاء قوي يُمكن أن يُمنح استقلاله من داخل مقرات الأحزاب ، أو ينهض به قضاة فشلوا فيما مضى في الحفاظ على استقلاله وهيبته ، لذلك على رئيس الجمهورية ومساعديه أن يتنبه ويتنبهوا للمحاولات التي تطبخها المطابخ الحزبية من أجل السيطرة على السلطة القضائية ، فالتعيينات داخل القضاء يجب أن تكون مجردة من الأهواء، والرغبات السياسية الحزبية والمناطقية ، وتصفية حسابات الماضي.. ويجب أن تواجه مثل هذه المحاولات البائسة بحزم وشدة من الرئيس شخصياً، وثقتنا به كبيرة ، أما أن يتقبل فخامته هذه المحاولات بالموافقة لأي سبب، أو حتى يدير لها ظهره ولا يواجهها ويمنعها ويقف أمامها بحزم ، فعلى الدولة، والحكم، والنظام، ومستقبل الأمة، والوطن، والثورة..." السلام".