وأخيراً حطت قدماي أرضك يا صنعاءُ، أرض الجنتين وفردوسها المفقود، كم حلمتُ بحضنك الدافئ يمتص غضب اشتياقي ورغبتي في الجثو أمام بهو حسنك الأخاذ.. يا أغلى العواصم وأشمخها على الإطلاق.. يا رائحة أجدادي المخبأة بين بيوتك العريقة، يا شهداً حلواً، نقياً، نقاء اهلك وفطرتهم مذ عهد قحطان، يا يومي وغدي وكل الراحل والآيب.. كبئر ينضبُ لكنه مرده للامتلاء، في كل مرة تموتين تبعثين من جديد بحلة بهية، لعل في ذلك سحراً أو عملاً أو ما شابه، فالمطبات والتخبطات السياسية المتلاحقة التي مررت بها، لم تنل من سطوة حضورك الطاغي في نفوس محبيك والمتلهفين لسماع ''حواديتك'' التي لا تنضب، وإنما تزداد تنوعاً وزخماً مع كل جديد! .. وإذا كان لبعض المدن رائحة الرجال، فإن لصنعاء قصب السبق فيما رويت، وما خنجرها المرتاح حول أوساط رجالاتها، إلا واحداً من علامات ما خُيل لي، وليعذرني البعض فيما إشتهته عيناي، فعلى امتداد أريحية البصر، يتراءى للمرء ما لا يستطيع رؤيته بالعين المجردة! كانت المحطة الأولى ''باب اليمن'' حيث تنبجس منه أبواب عديدة، يقال أنه كان فيما مضى باباً له قفل، بيد أن للأيام دورتها المعتاده في إضاعة وتغيير كل ما هو معتاد، إذ ضاع على إثرها القفل وأصبح باباً بلا مفتاح! ينقسم باب اليمن إلى مجموعة أسواق شعبية متراصة ومتخصصة أو كما تسمى بالسمسرة، يسهل للمتسوق إرتيادها، فثمة سمسرة للنحاس وأخرى تدعى المنصورة، وجميعها يكتظ بكنوز نادرة من الآثار والفضيات والتحف وكذا اللوحات الفنية المرسومة أو المنحوته على أيدي فنانين يمانيين، لم أشهد أكثر منها حِرفنة ومهنية، لكنها -للأسف- تشكو الوحدة والنسيان، ولستُ أعجب من ذلك، فزماننا زمن الرديء والكليل، أما الجيد العزيز فمكانه هناك حيث ''باب اليمن''! للعمارة الصنعانية طابعها المميز والفريد، وهي ترفض بكل إباء الإنصياع أو الإذلال لمقومات الحضارة المدنية الحديثة وبهرجها الخداع، ليس تخلفاً -بل نحن المتخلفون- حينما ضيعنا دليلنا واسترشدنا بدليل الغرب في البناء والهندسة، إذ لا لون ولا رائحة ولا طعم، وكانت النتيجة أن تسابقنا فيمن يحصد اكبر عدد ممكن من ناطحات السحاب والعمارات ذات العلو الشاهق والكومبونات شاسعة الأرجاء، ثم ماذا أخذنا من كل ذلك؟ سوى مزيد من الشعور بالإغتراب والوحشه وبأننا أصغر من أصغر ترس في آلة! أما صنعاء.. فوالهفي على مبانيها وعلى ''قمرياتها'' المتلألأة البراقة في الأجزاء العلوية من منازلها، لقد أدركت ''اليونسكو'' أهمية ذلك، فحرصت على أن تحافظ صنعاء على تراثها المعماري العتيد، بأن لا تدخل مادة ''الإسمنت'' في مبانيها الحديثة وتظل متمسكة بالمباني الحجرية المزينة بخطوط من الجص واللبن والياجور.. إن كل شبر في شوارعها يعود بك للوراء آلاف السنين، فتشخص النظر محدقاً فيما آل إليه حال أمتنا العربية المجيدة، تشخص النظر ملياً وتتذكر أنك في ملكوت بيتك العربي القديم ''اليمن'' أرض الأساطير ومهد الحضارات، الحضارات التي تعاقبت على حكمها، فاستنزفت خيراتها ومواردها وبقي الإنسان اليمني الثروة الكبرى التي تأبى على الاستنزاف أو التغيير، حيث الشموخ والأنفة المتأتية من شموخ جبالها ووديانها وسماءها الممتدة إلى ما لا حدود.. تشترك الوجوه اليمنية مع الوجوه الخليجية في ذات السحنة و''السمار''، بيد أن ما يميزها هي تلك الكرة التي تتكون على جنبي أحد الفم بفعل تخزين ''القات'' وقت ''المقيل''، وللقات حكاياته المتوارثة لدى الإنسان اليمني، ويزرع القات في المناطق الجبلية الباردة، ولعل من أكثر المناطق زراعة له في اليمن هي منطقة ''الضالع''، ولقد رأيت بعيني محميات زراعية واسعة تغطي مساحات شاسعه على قمم الجبال في طريقي من صنعاء براً إلى عدن. ولقد كان القات قبل الوحدة محظوراً تناوله في الشطر الجنوبي إلا مرة واحدة في الأسبوع، إلا أن وحدة الشطرين، وحدت كثير من الطبائع والسلوكيات، كان ''تخزين القات'' على رأسها! لتخزين القات فن وأصول، يقوم أساساً على تخزين كميات منه لساعات تطول على أحد جنبي الفم في محاولة استحلاب عصارتها بين الفينة والأخرى، وذا ما لم أفلح بصنعه، ولكنني استطعت على أقل تقدير أن أستحلب طعم السعادة مع كل وريقة كنت أبلعها بالخطأ وقلة الخبرة (2) وأحسد أقداحاً تقبل ثغرها كانت دعوة كريمة تلك التي تلقيتها من وزير الإعلام اليمني السيد حسن اللوزي للقيام بجولة سياحية وثقافية في ربوع جنة عدن، إذ أتاحت لي الزيارة فرصة معرفة ماهية عدن وإرثها التاريخي ومنجزها الحضاري بعيداً عن الأقاصيص والمرويات والقراءات التي استحوذت جانباً من مخيلتي، أذكر منها (جنة عدن) لإرنست همنغواي.. عدن لمن لا يعرفها ليست بغريبة عن مكون نسيج المجتمع البحريني وهويته، فحتى قبيل الوحدة اليمنية كان عدد سكانها محدوداً جداً بالنسبة لمساحتها ومقارنة بالشطر الشمالي، وكونها منطقة ساحلية ومرسى تجاري، فقد منحها ذلك مزيداً من الانفتاح ولين العريكة في التعامل مع الآخر، حيث قبول الرأي والرأي الآخر.. من هذا المنطلق يتميز سكان عدن بوابل من الثقافة والرقي والتحضر الإنساني، بخلاف أهل صنعاء التي كانت ترزح للحكم الإمامي المتشدد. تلك بعض حسنات الاستعمار، التي وإن اختلفت التأويلات في أهدافه والنوايا المستترة من جرائه، إلا أن المستعمر ''بكسر الميم'' يلعب دوراً كبيراً في طبيعة إحداث التغييرات والتطويرات على المستعمرة.. والمستعمر البريطاني كما هو معلوم لا يترك البلاد إلا وقد أدخل عليها كثيراً من التغييرات الجوهرية على نظامها التعليمي، إذ هو استعمار لا يعمد إلى استنزاف خيرات المستعمرة، بخلاف المستعمر الأمريكي مثلاً، أو الإيطالي القائم على الثكنات العسكرية أو الفرنساوي الذي يعمد إلى تفتيت هوية البقعة المستعمرة. منذ عام 1839 حتى عام ,1968 حيث نيل عدن استقلالها من الاحتلال البريطاني، مائة وتسعة وعشرون عاماً فترة ليست بالوجيزة، بحيث ينسى ''العدنيون'' كفاحهم المرير مع الاحتلال البريطاني الذي وإن انتهى بسحب قواته وأساطيله وطائراته، إلا أن شواهده وأطلاله باقية حتى اليوم، فمن نصب الملكة ''فيكتوريا'' وحتى أول مجلس تشريعي ''برلمان'' في الجزيرة العربية عام 1954 مروراً بالطراز المعماري البريطاني فهندسة الشوارع، جميع ذلك غيض من فيض أيام خلت، مطوية في أوراق التاريخ وعصية على النسيان من ذاكرة المجتمع العدني جيلاً بعد جيل! تشتهر عدن بشواطئها الغناء الممتدة على طول 2200 كليومتر، وأشهرها شاطئ منتجع العروسة، شاطئ الفيل وشاطئ رامبو الذي يقال إن سفينة الشاعر ''رامبو'' قد رست في عدن وهو في طريقه إلى أفريقيا بحثاً عن الثروة والمغامرة.. ومن أشهر ما تمتاز به عدن هو بخورها ''العرايسي'' الفواح، وأستطيع بحكم خبرتي الطويلة مع البخور القول إن ما يميز البخور العدني حقيقة هي كميات السكر المعقودة بين مكونات مزيجه الخالص من الطيب والعنبر وأفخر أنواع العود، الذي يعطيه نكهة شرقية أخاذة حين حرقه واشتعاله.. على كلمات ليزيد من معاوية وأنغام للمرشدي الذي شنف آذاننا بألحانه العذبة وصوته الشجي وهو يطربنا: أراك طروباً والهاً كالمتيم تطوف بأكلاف السقاف المخيم أصابك سهمٌ أم بليت بنظرة فما هذه إلا سجية من رمي مهذبة الألفاظ، مكية الحشا حجازية العينين، طائية الفم أغار عليها من أبيها وأمها ومن خطوة المسواك إن دار في الفم أغار على أعطافها من ثيابها إذا ألبستها فوق جسم منعم وأحسد أقداحاً تقبل ثغرها إذا أوضعتها موضع اللثم في الفم وقبلتها تسعاً وتسعين قبلةً مفرقة بالخد والكف والفم.. وصلنا أنا والمرافق الإعلامي ''نزار'' و''حليمة'' و''العم أحمد'' إلى منطقة (الصهاريج)، حيث التقيت بالأستاذ خالد عبدالله عبده رباطي مدير عام صهاريج عدن التاريخية الذي شرح لي عبقرية المكان وأوامر ملكة سبأ عندما جاءت إلى عدن في القرن الخامس عشر قبل الميلاد ببناء السدود ''الصهاريج'' لحفظ مياه الأمطار وتصريفها، ثم قدوم دولة حمير بتطويرها وتوسيعها، حتى أصبح عددها ما يقارب الخمسين خزانًا. والحديث مع الأستاذ العم خالد الذي لا يزال نابضاً بروح ''البعث'' في دمائه، حديث مؤلم وفرح في آن، وكلما شارف على الانتهاء، طالبته بالمزيد من الاستفاضة، فما كان منه إلا أن يرد علي ضاحكاً: (ألا يامرحبا بش.. وبأهلش.. وبالجمل اللي رحل بش.. وعلم سيري، علم سيري، ألا بسم الله الرحمن..)، ونبدأ من أول السطر، كأننا ما قد بدأنا ( 3) الحكمة يمانية.. لقد بات جلياً أن مجتمع التعددية السياسية في اليمن قد قضم جانباً لا يستهان به من مكون النسيج الإبداعي والثقافي، إذ تناءت المسافات وتقلصت على إثرها التنافسات الإبداعية بين شطري الشمال والجنوب، وأضحى الحديث عن الوحدة هو الطاغي والمهيمن على الساحة اليمنية، وكما للوحدة السياسية حسناتها على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، فإن لمخالبها الشرسة ما لا يمكن السكوت أو التغاضي عنه، كمواطنين عرب أشقاء نهفو إلى كل ما هو يماني متميز وفريد، حيث الريادة والأسبقية في المنطقة العربية. يقنعني السيد يسلم مطر، رئيس قطاع الإذاعة، البرنامج الثاني، حينما قمنا والوفد الإعلامي المرافق لزيارة إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون العتيد بعدن، أن تركيبة المجتمع اليماني الحديث قد سطا عليه الجانب السلفي المتشدد، وذا ما ساهم في تقويض حضور أو مشاركة اليمن برقصاتها الشعبية الزاخرة في المحافل الدولية، إذ تراجع حضور المرأة اليمنية - لاسيما في مجال الرقص الشعبي - عما كان عليه سابقاً.. وأقنعه بدوري أنه لا يمكن اختزال الثقافة في زاوية بعينها.. من قال إن الإبداع اليمني حصراً على الرقصة الشعبية. أين هو المسرح اليمني العريق، أين هي الدراما اليمنية؟ أين هو التسابق المحموم والتباري بين شعرائها حيث الكلمة الصادقة، مرهفة الحس؟ عرفت (عدن) البث التلفزيوني في عام ,1964 وهي بذلك تكون من الدول الأوائل التي سارت على طريق البث الأرضي بعد بغداد، بيروت والقاهرة، ومما يؤسف له حقاً أن دولاً حديثة العهد بالبث التلفزيون أصبحت اليوم تسابق الريح! ويسعى القائمون على الإعلام اليمني اليوم بتوجهات من الرئيس علي عبدالله صالح لإطلاق قناتها الفضائية الثانية (يمانية) القائمة على مرتكزات وخطوط عريضة جديرة بالاهتمام والأخذ بعين الاعتبار في خضم غمار حرب القنوات الفضائية الشعواء اليوم حيث وفرة العدد وضحالة المضمون. ويؤكد د. خالد عبدالكريم علي، رئيس تلفزيون القناة الثانية بعدن، في مأدبة غداء أقيمت خصيصاً لي، حيث شملت ما لذ وطاب من مأكولات يمنية يسيل لها اللعاب (كالمطافية، السلتة، سوسي، اللحم الحنيذ والخبز اللحوح) أن أحد أهم مرتكزات تحويل القناة الأرضية الثانية بعدن إلى فضائية هو تسليط الضوء على الجوانب الثقافية والسياحية والاستثمارية للبلاد، مع محاولات تقليص البرامج المكررة ذات التوجه المعلب العقيم! .. ونحن إذ نؤكد ونبارك حكمة الرئيس صالح في انتقائه للوقت والوسيلة المثلى لكسر حواجز رسمتها الحدود السياسية والاقتصادية المنادية بضرورة تأهيل اليمن لدخوله إلى منظومة دول مجلس التعاون، حيث اتخاذه الإعلام وسيله لبلوغ غاية منشودة ونبيلة نطمح لها جميعاً منذ أمد بعيد كدول وأشقاء عرب، يجمعنا ذات التاريخ العروبي الحافل، فإننا مؤمنون أن اليمن لا يزال بخير وفير تحت مظلة قيادته الحكيمة وشعبه المخلص الأبي، وكلنا أمل أن يعي الآخر أهمية اليمن وحضوره الاستراتيجي والأمني والثقافي في المنطقة، وأن يعمل جاداً على مد يده، مثلما هو شأن اليمن دوماً في مد يده صوب منظومة الخليج العربية، والأقربون أولى بالمعروف يا قادة دول الخليج! الوطن البحرينية