لطالما أثارتني تجربة الكويت البرلمانية العريقة؛ فمنذ كنا صغاراً ونحن نسمع عن مجلس الأمة الكويتي، الذي يطيح بحكومات ويأتي بأخرى، وتحول معها هذا المجلس في هذا البلد الصغير إلى نموذج قل أن نجد له مثيلاً في البلاد العربية، بما فيها تلك التي يخاض فيها انتخابات تشريعية ومحلية ورئاسية وغيرها. في الأسابيع الأخيرة شهدنا حراكاً غير مسبوق في مجلس الأمة الكويتي وجدلاً حاداً بين أعضاء المجلس والحكومة، لدرجة أن شعرنا أن الطرفين في معركة لن تنتهي، قبل أن يحسم أمير البلاد الأمر بحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة. الأمر لا يتوقف هنا عند حد النقاشات التي يثيرها أعضاء مجلس الأمة الكويتي، فمثل هذه النقاشات نسمع عنها في كل برلمانات العالم، لكن المختلف في مجلس الأمة الكويتي أن نقاشات الأعضاء مؤثرة على قراراته، فعندما تثار قضية ما في هذا المجلس لا تمر مرور الكرام، ولا يتدخل قادة البلد السياسيين في هذه القرارات للتأثير على قناعات النواب، بما في ذلك الحيلولة دون إسقاط الحكومات، التي يرأسها أحد أفراد الأسرة الحاكمة في هذه الدولة. لقد أدهشتني سياسة الاستجوابات التي يتقدم بها النواب لأعضاء الحكومات الكويتية المتعاقبة، لأن الاستجوابات دائماً ما تكون مبنية على معطيات حقيقية، ما يضطر معها الوزير المعني أو الحكومة بكاملها لخوض دفاع هو الآخر دفاع حقيقي وليس على طريقة "كلفة" النواب بأحاديث معسولة وتبريرات واهية وفي بعض الأحيان تهديدات مبطنة. ولا تنتظر الوزير الكويتي الذي يحضر إلى البرلمان للاستجواب طوابير من النواب بأوراقهم وطلباتهم، بل يأتي ومعه أرقام وحقائق كأسلحة لمواجهة النواب المتحفزين، الذين تتاح أمامهم فرصة العثور على كل ما يطلبونه من وثائق ومستندات لمواجهة الحكومة. وفي الغالب فإن الغلبة تكون للنواب الذين يؤكدون أنهم صوت الشعب الحقيقي داخل البرلمان، فلا يشهد المجلس مثلما تشهده بعض البرلمانات صفقات سياسية ولا صفقات مالية أو تعهدات بمنح امتيازات، وهو ما يجعل مجلس الأمة الكويتي من أفضل وأهم مجالس النواب في العالم العربي ويقدم نموذجاً لكيفية إدارة البرلمانات المعبرة عن آراء الشعوب. ليس المهم العدد الكبير من النواب، ولا المهم هنا الأحزاب التي تتناطح فيما بينها داخل البرلمانات دون فائدة، وليس المهم أن يتم بث النقاشات على الهواء، إذ ما فائدة أن يرى الشعب النواب يتخاصمون أمام الشاشة فيما هم غير قادرين على تغيير أي شيء تريد الحكومة تمريره، بل الأهم هو طرح القضايا بجدية ودون مزايدات، بصرف النظر عن تقديرات النواب لهذه القضية المثارة أو تلك. من هنا قد تكون البرلمانات في الدول التي لا تنهج التعددية السياسية أفضل من تلك التي تأخذ بهذا النهج، فتأثير البرلمانات في هذه الدول أقوى وأهم من تلك التي تحضر فيها الديمقراطية وتغيب عنها الفاعلية، ولنا في مجلس الأمة الكويتي أفضل نموذج. (السياسية)