اليمن - علي سالم / القاهرة - أمينة خيري - ما انفكت الفتوى الشرعية تلقى حضوراً قوياً في وعي اليمنيين وشؤون حياتهم اليومية. ويظهر ازدياد الاستشارات والأسئلة التي يطرحها مواطنون ومواطنات، عبر المساحات التي تخصصها وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، للفتاوى الشرعية، المكانة التي يحتلها رجال الدين في الحياة العامة. ويرشح من الموضوعات التي تتناولها الفتاوى أن تزايد الاعتماد عليها يقابله ابتعاد عن إعمال العقل في شؤون الدنيا. واللافت أن معظم القضايا التي يُستفسر عنها ليس من النوع «العويص» (أو العصي)، ويدور حول مسائل تبدو «افتراضية» وذات طابع سجالي، من قبيل «هل يصح الصوم نيابة عن قريب أفطر بسبب المرض؟»، أو «هل القيام للسحور يُعتبر نية للصيام؟»، أو «هل قراءة كتب العلم في الليل تُعتبر من قيام الليل؟». ولا يقتصر طلب الفتوى على العامة والأميين فحسب، بل يشمل أيضاً متعلمين ومثقفين يحرصون على أن تأتي أفعالهم مبنية على أحكام الشريعة. وترى نجوى هاشم، وهي ربة بيت وموظفة، أن الحاجة إلى الفتوى ما زالت قائمة، خصوصاً في أوساط النساء، «نظراً إلى انتشار الأمية بينهن». وهي ترى «استحالة» في وصول المرء إلى إلمام شامل بأمور دينه ودنياه، واستغنائه عن طلب الفتوى، في حين يعتقد نجيب عبد الله (39 سنة) أن الاعتماد الكلي على الفتوى وحصر المعرفة بشخص أو أكثر، «لا يعطل قيم العقل والاجتهاد فحسب، بل ويصيب الحياة بالجمود»، مستنداً إلى أن الأديان السماوية «جاءت لتحرر عقل الإنسان من عبودية الجهل والإتباع». وعلى رغم وجود مفتٍ للجمهورية، يلاحظ ميل بعضهم إلى الأخذ بما يصدر عن مراجع دينية قريبة من المذهب أو الجماعة التي ينتمون إليها. وبوجود جماعات دينية، ذات طابع سياسي بخاصة، باتت الفتاوى مختلفة إلى حد التعارض، وتشكّل إحدى أدوات الصراع السياسي والاجتماعي. وقد لوحظ توقف المفتي الشرعي عن إعطاء رأي في مسائل معيّنة، مثل التأمين على الحياة. ويذكر محامون أنهم يقترحون، أحياناً، على بعض موكليهم الأخذ برأي المفتي في قضايا تتعلّق بالميراث بخاصة، شريطة أن يتفق الخصوم على أن يكون رأي المفتي بمثابة الحكم الفصل فيها. وينطوي بعض الأسئلة المطروحة للفتوى على غرابة، وعلى انقطاع الصلة بواقع الحياة المعاصرة. ومن الأسئلة ما يصفه المفتي نفسه، ب «الخرافي». ومن أمثلته: «أصحيح أن الذي لا يصلي على النبي تموت زوجته؟»، و «هل يجوز مصافحة زوجة العم وزوجة الخال وحكم طلاق الحائض؟»، و «هل صحيح أن الموتى يسمعون خفق نعال الأحياء؟»، و «هل نزع أسنان الذهب من فك الميت جائز أم غير جائز؟»... وبحسب أستاذ علم الإناسة (الانثربولوجيا) الاجتماعية، في كلية الآداب بجامعة صنعاء، محمد العمراني، «لا تزال اليمن، على غرار دول عربية أخرى، تعاني تبعات شيوع ثقافة الخرافة والإتباع». ويقول إن «الطابع الديني للنظام السياسي أدى إلى انتشار الثقافة الدينية في شكل يقود أحياناً إلى الابتعاد عن مبادئ الدين الحق ومناوأة ما هو علمي وعقلاني». ويلفت إلى دور الإعلام في «تكريس» ثقافة الخرافة، مستنداً، في هذا الصدد، إلى ما درجت عليه محطات التلفزيون اليمنية من استضافة شيوخ دين عند حصول ظاهرتي الكسوف والخسوف، بدلاً من اختصاصيين. ويربط باحثون بين نظام الحكم الاستبدادي والاعتماد على رجال الدين كمصدر وحيد ل «الحقيقة». وكان شمال اليمن شهد فترات اضطراب وعدم استقرار، بسبب تنازع أئمة على الحكم، مستخدمين في ذلك الفتوى الدينية. وحديثاً طاولت فتاوى تكفير شخصيات وأعمالاً فنية وأدبية... (في مصر مصدره الفراغ والاحباط) يمكن تصنيف المجتمع المصري، على مستوى الموقف من الفتاوى، في ثلاث فئات، الأولى تعتبر الفتاوى اليومية ضرورة، ولا تستوي تفاصيل الحياة، صغراها وكبراها، إلا بها. والثانية تتغاضى عنها تماماً، وتحتكم إلى العقل، إما بناء على منطق متماسك وإما بحسب أهواء ورغبات شخصية. والثالثة تتتبع مبدأ «خير الأمور الوسط»، فتأخذ بها في ما يستعصى عليها فهمه أو الحكم فيه، من دون جعلها عائقاً يدفع إلى زمن مضى. ويشير واقع الحال في مصر إلى أن الفئة الثالثة تكتسب، مع مرور الأيام، أعضاء ومؤيدين، في شكل غير مسبوق. وحين يصل الحال بمفتي الديار المصرية إلى وصف الفتاوى التي تنهال على الناس من كل صوب بأنها «بلاوي»، فهذا يعني أننا وصلنا إلى عصر «إدمان الفتاوى». «قيام مكوجي ذكر بكي بنطلون المرأة حرام»، «صنع الخبز وحمله وأكله حرام إذا كانت فيه خميرة»، «كشف المرأة عن أصابع قدميها أمام الغريب حرام»... قائمة طويلة وغريبة. ولكن الأكثر غرابة منها هي أسئلة من قبيل، «هل معاكسة المتبرجة حلال؟»، أو «هل دخول الحمام بالقدم اليمنى مكروه؟» أو «هل ارتداء المرأة البنطلون يثير غرائزها الجنسية؟». لكن مسألة الغرابة نسبية، وما قد يثير عجب حسين ودهشته قد يبدو طبيعياً تماماً لأسامة. والأخير رجل في منتصف الأربعينات، لا يكاد يخطو خطوة في حياته إلا ويسأل رجل الدين - أو من يدّعي أنه كذلك - رأيه. يقطن أسامة في منطقة شعبية أقرب ما تكون إلى العشوائية، اكتسبت شهرتها في الثمانينات باعتبارها بؤرة من بؤر الإرهاب المرتبط بالتشدد الديني. وعلى رغم القضاء التام على هذه السمعة، بقيت ملامح «التدين» ومظاهره واضحة في شكل لا تخطئه العين، سواء في انتشار عدد المنقّبات، أو الفتيات الصغيرات المحجبات ممن لم يتجاوزن سن الخامسة، أو الملتحين، أو تلك الزوايا الصغيرة المقامة للصلاة والدروس الدينية، أو باعة الكتب الدينية على الأرصفة. ولا يكاد أسامة يخطو خطوة إلا بعد استشارة «شيخ»، غير معروف المؤهلات أو الخبرة، ولكنه يتمتع ب «كاريزما» قوية، ولحية مخضبة بالحناء، تنسدل حتى أعلى البطن. حكم الوضوء من ماء الخزان في حال انقطاع مياه الصنبور، حكم زيارة الزوجة وحدها لأمها بوجود زوج أختها هناك، حكم تنفيذ أمر مدير الشركة بعدم أداء صلاة الظهر فور سماع الأذان بوجود عملاء (زبائن) في المكتب، حكم شراء هدية لابنته في مناسبة عيد ميلادها... يقول أسامة: «لا بد أن أكون واثقاً قدر الإمكان من أني لا أخطئ. ثم أن الإنسان حين يشعر بأعراض برد يأخذ أسبرين لئلا يمرض، فمن باب أولى أن أحصن نفسي بفتوى لئلا أقع في المحظور». حسين شخص من جيل أسامة، لكنهما مختلفان، فالأول لم يلجأ مرة إلى رجل دين طلباً لفتوى. وهو يؤكد أن ذلك ليس بسبب نقص في التدين أو إفراط في فصل الدين عن الحياة، ولكن لأن ليس لديه الوقت لمثل هذه «التفاهات». ويتذرّع حسين بأنه حين يكون شخص ما لديه الوقت ليسأل عن كيفية دخول الحمام والخروج منه، ونوع المياه التي يتوضأ بها، وعن حكم تأخير الصلاة بضع دقائق بسبب مطالب العمل، وجواز وجود زوجته في مكان واحد مع زوج شقيقتها بوجود الأم... «فهو إما مختل عقلياً أو لديه متّسع من الوقت لا يعرف كيف يشغله». في المقابل، لدى نرمين (38 سنة) مشاغل كثيرة ووقت ضيّق، ومع ذلك تلجأ، أحياناً كثيرة، إلى شيوخ لطلب رأي الدين في مشكلة خاصة بولديها أو علاقتها بزوجها أو أهله، أو حتى في مواقف تمر بها. وتقول: «لا أطلب المشورة أو الفتوى إلا حين أشعر بأنني في حيرة من أمري. والحقيقة أن كثرة المنافذ التي تقدم الخدمات الفتوية تشجعني على ذلك». فمن أرقام تبدأ ب0900، إلى خدمات الهواتف الإسلامية أو الاستشارية، فمواقع الإنترنت المتخصصة، ومروراً ببرامج التلفزيون الكثيرة، ودار الإفتاء... لا يضل طالب الفتوى طريقه عن مصادر مختلفة يحصل منها على مبتغاه، سواء كانت مجانية، أو ب 75 قرشاً في الدقيقة. وإذا كانت الثورة المعلوماتية أفرزت مجتمعاً معلوماتياً قادراً على الاستفادة من هذا الكم المذهل من المعرفة، فإنها أفرزت كذلك «ثورات» أخرى اختلف حول تقويمها المراقبون، وإن كان اختصاصيون في العلوم الإنسانية يرجحون أنها تعجّل الانزلاق نحو «مجاهل العصور الوسطى»، ولكن ب «لوك» الألفية الثالثة (أي مظهر معاصر). أستاذ علم النفس، في جامعة عين شمس، فتحي الشرقاوي، يرى أن شيوخ الفضائيات والإنترنت عظموا استفادتهم من الثورة المعلوماتية التي، بدورها، أخفقت في اجتيازها الأروقة الدينية الرسمية، فحتى اليوم، يقول الشرقاوي، «ما زال شيوخ المساجد يتحدثون عن ثلاث قضايا لا رابع لها: أيام الإسلام الأولى، وعذاب القبر، والجنة والنار. أما ما يتعرض له المسلم في حياته اليومية من مشاكل وعقبات وتحديات، فغائب تماماً عن خطبهم وكلامهم وتفكيرهم». وهو يعتبر أن لجوء الكثيرين إلى قنوات أخرى للاستفتاء طبيعي، لا سيما أن ذلك يتزامن وسلسلة إحباطات طويلة أصابت الشباب، ومع غياب الأزهر، سواء كجهة رقابية على مطلقي الفتاوى السطحية، أم لدرء خطرها للقيام بالدور المنوط به. ويشير الشرقاوي إلى إن ظاهرة الركض وراء الفتاوى «العجيبة والقادرة على هدم بلد بأكمله»، تنتشر في شكل واسع في المناطق العشوائية والفقيرة، حيث القاطنون يكرهون أوضاعهم المعيشية، ويزيد من بؤسهم انسداد الأفق. وهم يتشوقون إلى من يمد لهم يد العون، حتى لو كان التطرّف وراء تلك اليد. محمد سالم (70 سنة) مواطن مصري عادي ينتمي إلى عصر يسميه «ما قبل تسونامي الفضائيات»، يقول: «إذا دخل الفراغ، سواء في الوقت أم الفكر أم السياسة أم حتى الجيوب من الباب، خرج العقل من الشباك، وهو ما يحدث حولنا اليوم. الجميع يعاني فراغاً قاتلاً، وليس هناك أظرف ولا أمتع من فتوى عجيبة هنا أو سؤال مستفز هناك، و حبذا لو كانا ذات طابع جنسي كي يستمتع الجميع!».