ستظل مواقف الاحزاب، قناعاتها الفكرية والأيديولوجية وبرامجها السياسية وقيادتها وقاعدتها الاجتماعية وتحالفاتها ومكانتها في إطار المنظومة السياسية الوطنية، نسبية ومتغيرة بكل تأكيد، وهذا التغيير حتمية ديمقراطية تفرضها عوامل موضوعية متمثلة في الواقع الوطني الذي يعمل فيه هذا الحزب، ومتغيرات هذا الواقع وتطور بنيانه الاجتماعي السياسي واحتياجاته التنموية المتنامية مادياً وروحياً. وهذا التغيير أياً كان مساره تقدمياً أورجعياً، وأياً كانت نتائجه سلبية أو إيجابية تحتمه ايضاً شروط ذاتية تتعلق ببنية الحزب (القيادية والتنظيمية والفكرية)، وقدرته على التغلغل في الوسط الاجتماعي وتبني مصالح الجماهير والدفاع عن مصالحها والظفر بولائها. وعلاقة الاحزاب مع إطارها الاجتماعي السياسي والعملية الديمقراطية ليست آلية وهي غير ثابتة ولا متوازنة، بقدر ما هي علاقة معقدة ومتشابكة وتبادلية الآثار، ومن الضرورة بمكان عدم الخلط القسري بين نشاط الحزب وايديولوجيته وبنائه التنظيمي ومكونه الاجتماعي وبرامجه السياسية، باعتباره «أداة تنظيمية لممارسة العمل السياسي في خدمة مصالح شرائح اجتماعية محددة»، وبين الديمقراطية كإطار سياسي وطني جامع ومنظم «لآليات ومؤسسات ووسائل، ومبادئ وأساليب ومعايير الحريات والحقوق الفردية والعامة» المنظمة للعمل السياسي والاجتماعي، على الساحة الوطنية وضبط إيقاعه ومسارات تطوراته التراكمية وتحولاته النوعية وفق تشريعات قانونية مجمع عليها، تستلهم خصوصيات الواقع الوطني ودرجة تطوره واحتياجاته المعاصرة والمستقبلية. كافة التشريعات القانونية المنظمة للعملية الديمقراطية في بلادنا اليمن مستقاة من عقد اجتماعي متمثل بالدستور وهي مجسدة لمصالح الوطن والشعب بكل مكوناته الجغرافية والاجتماعية ومختلف ألوان طيفه السياسي.. وأهميتها وقوة فعلها في أنها نابعة من خصوصيات الواقع وتعكس درجة تقدمه واحتياجاته في كل مرحلة من مراحل تطوره، وتتسم بالحيوية والقدرة على التجدد والتطور لتواكب احتياجات واشتراطات تطور العملية الديمقراطية وبنيان المجتمع السياسي والعلاقات الاجتماعية السياسية والاقتصادية السائدة ومستوى الرقي في حياة الشعب مادياً وروحياً والمتغيرات الكونية من حولنا، وغيرها من العوامل والتراكمات الكمية التي تجعل من التطور النوعي التشريعي والمؤسسي للعملية الديمقراطية حتمية وطنية للدفع بالممارسة الديمقراطية ومبادئها وبنائها المؤسسي خطوات متقدمة نحو الأمام، وخلق المزيد من محفزات وشروط وضمانات نجاحها وتعزيز مناعتها الذاتية وتحصينها من مخاطر الانتكاسة او التراجع. لهذا فإن أي تطور تشريعي ومؤسسي ناجح لتجربتنا الوطنية الديمقراطية يكون نابعاً من حقائق الواقع الراسخة على الأرض، والمعطيات التي أفرزتها نتائج الممارسات العملية السابقة للعملية الديمقراطية.. فالتطور التشريعي الناجح هو محصلة للفهم الجمعي الواعي والعميق لتجارب الشعوب الأخرى للاستفادة منها، والأهم من ذلك إدراك خصوصية تجربتنا الديمقراطية والإلمام الشامل بكل العناصر المؤثرة فيها سلباً وإيجاباً، ومسار تطورها، قوة فعلها، معوقاتها الداخلية والخارجية وإفرازاتها المحتملة، ودرجة مواءمة هذه التجربة مع الوسط «الاجتماعي، الاقتصادي، الثقافي، السياسي، الاخلاقي».. الذي تعمل فيه وتتطور من خلاله، ودراسة وتحليل وتفسير وفهم مجمل هذه المعطيات والمؤثرات باعتبارها الارضية الخصبة المواتية للتطوير الابداعي لتجربتنا الديمقراطية «في تشريعاتها، ومبادئها، ومؤسساتها، وقيمها، وأهدافها» ضمن رؤية وطنية استراتيجية بعيدة المدى. هناك إجماع وطني على أن التغيير والتحديث في التشريعات المنظمة للعملية الديمقراطية ضرورة حتمية وسنة من سنن التطور، إلا أنه لا يمكن إخضاعها لإرادة وقناعات ورغبات بعض الأحزاب السياسية وفي الوقت الذي تقتضيه حاجتها ومصالحها الى ذلك، ولا يمكن لها أن تكون خارج إطار العقد الاجتماعي أو موجهة ضد إرادة ومصالح غالبية السكان وبقية الأحزاب الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني المعنية بأي تغييرات تشريعية. وما نشاهده اليوم من تفاعلات سلبية على الساحة الوطنية وانقسامات سياسية حزبية و اجتماعية يراد الدفع بها الى هاوية الصدام والفتنة، وما نقرأه اليوم في الخطاب السياسي الاعلامي الحزبي المتمترس في الدفاع عن مصالح ضيقة والمنغلق والمتناقض بمفاهيمه ومفرداته بين الحسنات والعيوب وبين التبجيل والرفض وغياب الرؤية الواقعية والحوار الديمقراطي المبدئي المسؤول والمتزن، ومحاولة تتويه الرأي العام ضمن مهام قديمة تجاوزتها حقائق الواقع الديمقراطي ويرفضها الوعي الوطني وتطوراته المتواصلة. هذه وغيرها من المعطيات تكشف عن مدى خطورة الارتكاز على مصالح الجماعة او الحزب وجعل قناعاتها الفكرية والسياسية مفاتيح أساسية لفهم العملية الديمقراطية وممارستها، وكذلك الاستناد الى معايير خارجية غير مشتقة من خصوصيات التجربة الوطنية ومتجاوزة لكل شروط تطورها الموضوعية والذاتية.. وتندرج في هذا السياق الخطر المطالب الحالية لأحزاب اللقاء المشترك واشتراطاتها لدخول العملية الانتخابية.. إن مثل هذه الاشتراطات غير الواقعية واسلوب التحاور مع الآخر وفق خيار «حبتي أو الديك»، وتجييش قواعدها الحزبية لإرباك عملية القيد والتسجيل وغيرها من الممارسات والأساليب الخطرة إنما تقود البلد الى مزالق كبيرة. إن ما تمارسه اليوم أحزاب اللقاء المشترك لا يمكن أن يصنف ضمن واقع اللعبة الديمقراطية وممارسة الضغوط على الخصم لتحقيق مكاسب سياسية خارج قوانين اللعبة وشروطها أو عن طريق الصفقات السياسية من خلف ظهر الشعب، وتقاسم الكراسي كما هو معمول به في بعض الديمقراطيات النامية.. ما تمارسه وتشترطه هذه الاحزاب يعبر عن نهج سياسي فكري وعملي يسعى الى تقزيم التجربة والممارسة الديمقراطية في قضية الانتخابات واختزالها في دائرة المصالح والبرامج والاهداف السياسية لهذا الحزب او ذاك، وبالتالي اختزال مصالح الوطن وخيارات الشعب وقناعاته في مصالح هذا الحزب وقيادته، ومثل هكذا نهج ينطوي على درجة كبيرة من الخطورة على العملية الديمقراطية التي يحاول كل حزب تحويلها الى قميص ويعيد تفصيلها على مقاسه وتأميمها سياسياً واختزال مضامينها ومؤسساتها وأهدافها ضمن نطاق برامجه السياسية ومصالحه واهدافه ومصادرة إرادة الشعب وخياراته وقناعاته. إن أي تطوير للبناء التشريعي والمؤسسي للعملية الديمقراطية كتلك التي يطالب بها اللقاء المشترك من تعديلات في قانون الانتخابات لا يخضع للمصالح والأهواء الحزبية، ولا يمكن ارتجالها أو صياغتها بصورة اعتباطية من قبل هذا الحزب او ذاك وفق ما تقتضيه مصالحه السياسية وتضمن له شروط البقاء في السلطة او النجاح في الانتخابات، كما لا يمكن احتكارها ضمن اتفاقيات وصفقات ثنائية بين طرفين على حساب الآخرين وعلى حساب الوطن والتجربة الديمقراطية ومستقبلها.. مثل هذه التعديلات والتطويرات التشريعية ينبغي أن تتم ضمن رؤية وطنية استراتيجية يصنعها وعي وطني جمعي يدرك جيداً خصوصية التجربة ومتطلبات تطورها وطبيعة تفاعلاتها الذاتية الداخلية وعواملها الموضوعية والخارجية.. وعي جمعي قادر على الإبداع واكتشاف الجديد وتأصيله.. وعي حصيف وحريص على استمرار التجربة الديمقراطية وتطورها المستمر فكراً وممارسة ضمن واقعها الوطني بأسلوب سلس ومتدرج لا يتخطى مراحل نموها الطبيعي وواقعها الوطني بكل مكوناته وسماته المختلفة.. أي تطورات أو تعديلات لابد لها أن تنبع من مصالح الوطن والشعب ويجمع عليها الكل باختلاف ألوان طيفهم السياسي والاجتماعي والجغرافي.