عبدالكريم سلام - منذ أن نصبت الخيام فيها ووقع الاختيار عليها كساحة لاعتصام المحتجين المطالبين بإسقاط النظام أصبحت ساحة الحرية الممتدة على مساحات واسعة في أربعة اتجاهات متفرقة أمام جامعة صنعاء فضاء لحياة وطقوس، وعادات جديدة ممزوجة بنكهات الحرية والتغيير والثورة ومزار. ومنذ أن كسر شباب الثورة اليمنيين حاجز الخوف على غرار ما فعله أقرانهم شباب تونس ومصر وليبيا تتلون حياة المكان ومظاهره وقيمه بأحلامهم المنتظرة المؤسسة لدولة مدنية حديثة كما يحبوا أن يرددوها، فهم يسعون جاهدين لتكريسها في واقعهم المعاش حتى يكونوا جديرين ببلوغ الدولة التي ينشدونها كمستودع للمساواة والمواطنة والعدالة كما يقول هايل الهمداني أحد الشباب المعتصمين فيها منذ بدء الاحتجاجات المطالبة بسقوط النظام. فالساحة التي تحولت من مجرد مكان لاحتشاد وتجمهر شباب التغيير إلى فضاء للحرية وإلى مزار ملهم لما بات يطلق عليه للتطهر النفسي والأخلاقي حيث تتأسس قيم جديدة من التآخي والمساواة أضحت تدفع بأرتال من القاصدين لساحة التغيير من أجل إعلان انضمامهم إلى حياة بسيطة ومغرية، وبعد أن وجد الكثير منهم أن هذا المكان الذي لم يكن ذات يوم سوى طريق لمرور سيارات مسرعة يتسابق فيها الناس على بلوغ مقاصدهم دون أن تنشأ بينهم أي علاقة تعارف ، بات لهذا الفضاء روابط حميمية زاد من حميميتها كما يضيف الهمداني فقدان الرفاق والأصحاب ممن سقطوا شهداء أو جرحوا في الهجمات التي استهدفت الساحة والتي جعلت منها وطناً لكل أبناء اليمن على عكس ما كان يرمي إليه المهاجمون من أنهم سيخيفوننا بدموميّتهم وعنفهم الهمجي، أصبحنا أكثر إصراراً على مطالبنا وأكثر بعداً عن الخوف الذي أرادوا أن يزرعوه فينا. اسرة احدة ويقول ياسر الحميدي: «رفاقنا الذين تقاسمنا معهم رائحة الخبز والبارود والغازات وسقطوا إماء شهداء أو جرحى جعلونا ندرك أن الحياة لا قيمة لها من غير الوفاء لدمائهم، وبعد فقدانهم جعلونا أكثر إصراراً على الصمود والتصدي لأن أجواء الألفة وتقاسم برد الليالي والأكل على قلته وبساطته وكذا لحظات الفرح جعلتنا كأسرة واحدة نحن لهذا المكان الذي نرى أنه سيكون حتما مرحلة فاصلة بين عهدين. ومثلما غدت ساحة الحرية والتغيير مكاناً للألفة والوفاء والآمال التي يطمح إليها شباب الثورة، أصبحت لها قوانينها وأعرافها السارية على الجميع حتى الأخلاق وعلى العرض والطلب وحتى على أسعار الغذاء والسلع التي تباع فيها، فارتفاع سقف الحرية في المكان ولد أنشطة جديدة للباعة خاصة منهم الباعة المتجولون الذين غير بعضهم نشاطه تماشيا مع الطلب ، ففي المكان الذي أطلق فيه العنان للحديث بحرية عن السياسة والسياسيين انتشرت ظاهرت طباعة و بيع الرسوم والصور التي يتفنن في تشكيلها شباب الأنترنت، ويقوم الباعة المتجولون وبعضهم ممن ليس له علاقة بالإنترنت بسحبها وطباعتها ملونة، أو عادية وعرضها للبيع على الجمهور وهي في الغالب لوحات تهكمية على الرئيس صالح أو على رجال دولته وحكومته، أو رئيس مجلس النواب تسخر من مقولاتهم أو تظهرهم على هيئة بلطجية يهاجمون المعتصمين وتلك النماذج تجد إقبالا ملفتاً خاصة من قبل زوار الساحة الذين يجدون فيها مساحة من الحرية وتحرراً إلى الحد الذي يمكنهم من القول دون رقابة أو محاسبة مالم يستطيعوا قوله على مدار عقود طويلة وبجرأة وشجاعة فيما تحمله من نقد وسخرية لم يألفها الناس، ولذلك لا يترددون في شراء مثل تلك الرسوم والصور وحملها إلى منازلهم أو من أجل إطلاع الآخرين عليها وهو ما يزيد من رواجها في سوق الساحة. رواج تجارة الأعلام كما أن تجارة بيع الأعلام أصبحت الخيار الأنسب لكثير من الباعة فانتعاش الآمال بالتغيير المنتظر وارتفاع نبرة الخطاب الوحدوي أنعشت الطلب على الأعلام الوطنية بأشكال وأحجام مختلفة خاصة أن الشباب يجدون فيها دلالة وتعبيرا رمزيا لهوية اليمن التي يقولون إن سنوات فساد النظام وطغيان النخبة السياسية قد وصل حتى إلى إضعاف الانتماء الوطني الذي استعاد عافيته في غمرة الحماس الثوري السائد في طل ساحات الحرية كما يقول الصحفي المعارض فيصل الصفواني. معاملة راقية يبدو أن منطق الثورة والحرية في ساحة التغيير فرض نفسه حتى على نمط الحياة وعلى التعامل بين الناس فالنساء اللائي يأتين إلى الساحة يقابلن بمعاملة راقية لم يألفنها من قبل في .المعروف أحمد صالح الفقيه اللحظة الثورية التي يذوب فيها الأناء الفردي في الكل الاجتماعي يحدوهم الأمل نحو يمن مختلف لطالما حلم به الجميع ، حتى اللحظة التي جاء فيها الشباب ليكرسوا قيماً وأخلاقاً جديدة قوامها التسامي ومعانقة لحظة التغيير المنتظرة التي تخلصهم من كل الآلام التي يقاسونها منذ زمن» . الثورة والحرية في ساحة الحرية تنعكس على حياة وطباع الناس وسلوكهم وحتى أذواقهم كما هو حال أمين المشولي الذي بدل نشاطه التجاري من بائع ملابس إلى بائع شاي أطلق عليه «شاي الثورة» فمنذ بداية الاعتصام يقول المشولي: «قررت أن أكون أحد أبطال لثورة بعد ظروف قاهرة تجرعتها كبائع للملابس في شارع الجامعة وكانت الفرصة حيث بعت الملابس لأحد تجار هائل ونزلت الميدان تنفيذاً لقراري». إلا أن الظروف، حسب المشولي، حالت دون مواصلته الاعتصام في الساحة «لذا قررت بيع الشاي في الساحة». كان المشولي يتحدث فيما تبرز حوله صورة منتصبة للثائر تشي جيفارا رمز الثورة في العالم وإلى جانبه صورة الرئيس إبراهيم الحمدي ملهم اليمنيين وثورتهم العادلة، وغايته أن لا يقدم الشاي للثوار فحسب بل ويشاطرهم كل تطلعاتهم وأمالهم كما يجزم ويؤكد . قواعد جديدة الحرية والثورة في ساحة التغيير ليست متاحة فقط في بيع مثل تلك المعروضات ، بل تمتد إلى قواعد البيع نفسها حسب عبدالله سعيد بائع محمصات متجول الذي يشرح ذلك بقوله: «في هذا المكان يعيش الباعة المتجولون الحرية بكل معانيها حيث لا توجد بلدية تطاردنا، ولا ملاك أسواق يفرضوا علينا إتاوات، ولا من يأخذ علينا بضاعتنا... لأننا هنا في حماية الشباب الذين هم على درجة عالية من الذوق والأخلاق الرفيعة». ويضيف: «لهذا فالأسعار التي نبيع بها هنا أقل بكثير من أسعار السوق لأننا ندرك أن هؤلاء الشباب الذين تركوا أهلهم ونذروا أنفسهم للتغير وقيادة التحول في البلاد جديرون بأن يعاملوا معاملة خاصة». *البيان