ثورات الربيع والغضب والياسمين قد تتحول إلى خريف مثقل بالفوضى والانفلات والتخوين، والصراعات التي بدأت مع تعثر خيار الحوار وإصلاح الذات قد تنتهي بالإفلاس ليومنا هذا لم تحقق ثورات الربيع العربية عنصراً واحداً من عناصر نجاحها الأساسية: التنظيم، والتحرير، والتغيير. وقد تفشل هذه الثورات في تحقيق أهدافها إذا لجأت للفوضى واختارت طريق التشفي والتخوين والانتقام والانفلات الأمني. تاريخ البشرية مليء بالثورات العارمة، التي نجحت في تنظيم صفوفها ووسائل تحرير شعوبها ومدى التغيير الذي أحدثته في أوطانها. خلال القرن الماضي واجهت شعوب المعمورة 17 ثورة سياسية أعظمها ثورة الرأسمالية ضد الشيوعية وتحطيم جدار برلين الشرقية، و5 ثورات تقنية أهمها الثورة الصناعية والاتصالات والمعلوماتية، و3 ثورات اقتصادية أفضلها ثورة العولمة وإنشاء منظمة التجارة العالمية. جميع هذه الثورات نجحت في أهدافها وحققت غاياتها دون إراقة الدماء وإزهاق الأرواح. أما ثورات الربيع العربية التي بدأت في تونس ومصر وليبيا وسورية فقد فشلت في تحقيق الحد الأدنى من أهدافها لأنها ما زالت تعيش مخاضاً عسيراً وفوضى شعبية عارمة وانفلاتا أمنيا غير مسبوق. لأنها بدأت بأخطاء فادحة، قد تؤدي إلى فشلها واندحارها ووأدها في مهدها، فقدت ثورات الربيع العربية كافة عناصر نجاحها وراهنت على الأمور الشكلية، وحاصرت مقدّراتها في بوتقة الأساليب الهشة التالية: أولاً: شخصنة الثورة، حيث تسرّعت كل من تونس ومصر في إلقاء اللوم على أرباب النظام والحزبين الحاكمين، الدستوري في تونس والوطني في مصر، واتخاذ قرار حلّهما ومحاكمة المسؤولين عنهما إرضاءً لشباب الثورة. لم تأخذ ثورات الربيع بعين الاعتبار نتائج حلّ حزب البعث في العراق وملاحقة أعضائه واستئصالهم، مما تسبب في جعله العدو الأول للحكومة الجديدة وأصبح يحمل لواء المقاومة حتى الآن. شخصنة الثورة العربية أصبحت الوجه الآخر لعملة الأنظمة العربية الخاسرة التي ثار الشباب عليها. واستمرار هذه الشخصنة يؤدي إلى تآكل قيم ومعاني تعديل الدستور وتغيير النظام، بالإضافة إلى زيادة طغيان الثوار وارتفاع سقف رغباتهم. وكما كان الوضع عليه أثناء النظام السابق، تنعكس نتائج الثورة سلباً على مؤسسات الدولة وآليات عملها وتصبح شخصنة الثورة امتداداً لرغبات النظام الجديد ونزواته ومصالحه، لينتشر الفساد والاستبداد والقهر مجدداً. ثانياً: عدوانية الثورة، حيث انتشرت قضايا التخوين بين الثوار وتراشق الاتهامات العدوانية بين قياداتهم وتفاقم مفاهيم إقصاء الطرف الآخر، إضافة إلى غياب قواسم الشراكة الوطنية بين القوى المعارضة للأنظمة البائدة. وجاء ذلك بسبب افتقار شباب الثورة للبعد الاستراتيجي التنظيمي المحنك، الذي يتطلب رؤية مرسومة واضحة وأغلبية شعبية موسّعة، قادرة على ضبط النظام وتوفير الاستقرار والأمن أمام الأمر الواقع الذي لا يمكن تجاوزه. في هذه الأيام تعكف بعض قيادات الثورة المصرية على جرد أسماء الشباب الذين شاركوا في مظاهرات الغضب بهدف معاقبة الشخصيات التي تخلفت عن المشاركة. ثالثاً: سطحية الثورة، حيث أدى افتقار ثورات الربيع العربية لبرامج البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي لشعوبها، التي منها توفير الأمن وتأمين الوظائف واجتثاث الفقر. أدى ذلك إلى حصر هذه الثورات بالشعارات المرفوعة ضد الأنظمة السابقة واستخدامها رهينةً لنتائج محاكمة الأعوان والزبانية دون تحقيق تقدم ملموس حاسم في التغيير المطلوب. والنتيجة المتوقعة أن ثورات الربيع قد تسمح في القريب العاجل بالرجوع إلى الأنظمة القديمة لضبط الأمن فقط وتشديد الرقابة على المجتمعات المدنية. رابعاً: عاطفية الثورة، حيث لجأت حشود الجماهير المتوترة إلى مواصلة الاعتصام في الشوارع والميادين وأطلقت رايات الاحتجاج لكل ما لا يروق لها ورفعت سقف المطالبات لكل ما يروق لها. هذه العواطف الثوروية الجياشة، وغير المستغربة في شارعنا العربي، فتحت الباب على مصراعيه أمام المرتزقة وقطّاع الطرق لإثارة الشغب بين الطوائف وإضرام فتيل الانفلات الأمني. خامساً: مصداقية الثورة، التي انهارت جراء انتشار الآراء المتضاربة لأصحاب القرار وإشاعة التوجهات المتعاكسة لوسائل الإعلام وفشل الأقطاب السياسية في رأب تصدع خلافاتهم، مما أدى إلى تأخر نقل مقاليد الحكم من العهد السابق إلى المرحلة الانتقالية. بعد 8 أسابيع من ثورة الغضب سقطت الحكومة المصرية المؤقتة وارتفعت وتيرة جرائم السطو 200% وتراجعت كفة الانضباط الوظيفي في الشركات بنسبة 63%. وخلال 9 أسابيع من ثورة الياسمين انتفض الشعب التونسي 3 مرات للإطاحة بحكومته المؤقتة وتعديل الدستور والإصرار على دحر الثورة المضادة. هذا في الوقت الذي تفاقمت حدة البطالة في مصر وتونس بنسب فاقت 32% وارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 30%، وذلك بالتزامن مع انخفاض القيمة الحقيقية للعملة المصرية والتونسية أمام الدولار بنسب غير مسبوقة. سادساً: غموض الثورة، حيث ظهرت نظرية المؤامرة الإسرائيلية ضد العالم العربي، وانتشرت إشاعات المد العثماني (التركي) في الشمال الأفريقي، واسترسلت الفضائيات في سرد نوايا الاستعمار الغربي. ولم تسلم ثورات الربيع العربية من اتهام أمريكا تارة بإشاعة الفوضى الخلاقة واتهام أوروبا أحياناً باستهدافها ثروات الشعوب العربية. وما زالت هذه الثورات تواجه تذمر شعوبها من ضبابية المحاكمات الجارية لأقطاب النظام السابق، وتخوف قيادات الثورات من سطحية هذه المحاكمات وتهاون أحكامها. ثورات الربيع والغضب والياسمين قد تتحول إلى خريف مثقل بالفوضى والانفلات والتخوين. والصراعات التي بدأت مع تعثر خيار الحوار وإصلاح الذات قد تنتهي بالإفلاس والارتطام بجدار الصراع على السلطة. وعندها سندرك حجم الخسائر التي سيدفعها العالم العربي بسبب التفريط في مستقبل أجيالنا وتغيير خارطة أوطاننا. شاء أم أبى...الربيع العربي لن يعيش طويلاً ليقف شاهداً على نتائج أفعاله المستقبلية