"يكذب من يقول أنهم ماتوا!"، صرخت سحر عبدالله وهي تجهش بالبكاء. فبالرغم من أن أفراد أسرتها قالوا لها أن أولادها الصغار قد توفوا، فهي لا تزال تعتقد أنهم على قيد الحياة ولم يقتلوا بالتفجير الإنتحاري الذي هز بغداد في 22 كانون الأول/ديسمبر الماضي. "سيعودون بالتأكيد بعد قليل"، حسبما أضافت. فأحمد وبلال وعبدالله، ذوو التسعة والثمانية والسبعة أعوام على التوالي، كانوا في حافلة صغيرة متوجهين إلى مدرسة البهجة النموذجية الإبتدائية في الكرادة عندما استهدف إنتحاريان، الأول يقود سيارة مفخخة والثاني يرتدي حزاما ناسفا، مبنى هيئة النزاهة الوطنية. قتل في التفجيرين 11 شخصا، بينهم الأخوة الثلاثة وزميلين لهم وسائق الحافلة. وتقيم عبدالله، 43 عاما وهي ربة منزل، في منزل شقيقتها منذ الحادث بعد أن نصح طبيبها النفسي زوجها أن لا تعود إلى منزلها لفترة معينة، كون عودتها إليه ومشاهدة غرف أطفالها ومكان لعبهم سيزيد من حالتها النفسية سوءا. الضرر النفسي 'أكبر بكثير من الجروح التي تتركها المفخخات‘ والعمليات الإرهابية لا تحصد الأرواح فحسب بل تدمر نفسية الناجين منها، لا سيما النساء والأطفال، حسبما قال محللون نفسيون في حديث لموطني. وقالت الدكتورة نهاد العاني، رئيسة قسم علم النفس في الجامعة المستنصرية ببغداد، إن "المشاكل النفسية التي تخلفها العمليات الإرهابية هي أكبر بكثير من الجروح التي تتركها المفخخات والعبوات الناسفة في أجساد العراقيين". وأضافت العاني أن "غالبية من يعانون من أمراض نفسية وعصبية هم من النساء والأطفال، كونهم الحلقة الأضعف في المجتمع العراقي". وأوضحت أن العمليات الإرهابية "سببت أمراضا نفسية كالقلق والأرق وانفصام الشخصية واللجوء إلى الإنتحار أو الإدمان للتخلص من ذكريات مؤلمة". الميول الانتحارية وفي هذا السياق، قال وكيل وزارة الصحة العراقية، الدكتور خميس السعد، في حديث لموطني إن "غالبية من فقدوا أشخاصا من أسرهم أو أصدقائهم تعرضوا لأزمات نفسية حادة قادت بعضا منهم إلى الانتحار أو التحول إلى أشخاص عدائيين". وأشار السعد إلى أنه بالرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة ورسمية عن عدد ضحايا الإرهاب الذين أصيبوا بأمراض نفسية، إلاّ أنه منذ مطلع عام 2011 إلى 4 شباط/فبراير الماضي راجعت مراكز الصحة النفسية ومستشفيات العلاج النفسي حوالي 19 ألف و300 عراقي يعانون من اضطرابات نفسية بسبب العمليات الإرهابية التي شهدوها. بدوره، قال الدكتور علي الخطيب، رئيس قسم استشارية الأمراض النفسية في مستشفى الهلال الأحمر العراقي ببغداد، إن حوالي 320 شخصا يعانون من مشاكل نفسية حادة زاروا القسم منذ مطلع أيلول/سبتمبر 2011. وأوضح أن معظم هذه الحالات كانت لنساء فقدن أبناءهن أو أزواجهن ولأطفال شاهدوا بأعينهم عمليات قتل أو إعدام لمواطنين في الشارع على يد إرهابيين. "نحتاج إلى شهور طويلة لعلاج بعض الحالات، خاصة الحالات النفسية التي يمر بها الأطفال"، على حد وصفه. وأضاف الخطيب أنه حتى وإن تم إعطاء المريض العلاج المناسب فإن الأطباء لا يزالون يرصدون زيادة في عدد الحالات النفسية. "فما إن ننجح بعلاج حالة حتى تأتينا حالات أخرى بسبب عمليات التفجير التي تستهدف المدنيين". ما حصل للأولاد الثلاثة هو أمر 'يدفعنا‘ لتدمير القاعدة "ما حصل لأولاد سحر جريمة لا يمكن أن يقوم بها سوى أبشع مخلوقات الأرض"، حسبما قالت شقيقة سحر، شيماء عبدالله. "القاعدة ليست سوى مجموعة قذرة من المرضى الذين يحملون الأسلحة والمتفجرات ويقتلون الناس بغير حساب. هم لم يقتلوا الأطفال الثلاثة فحسب، بل قتلوا والديهم أيضا". أما زوج سحر، إسماعيل فاضل، 45 عاما ويعمل موظفا في معمل لصناعة البطاريات الجافة ببغداد، فقد قرر أن لا تكون نهاية أطفاله أمرا يحدث لمزيد من العراقيين. ففي كل يوم، يجوب فاضل مراكز الشرطة ومنظمات المجتمع المدني لحشد الدعم ضد القاعدة والمطالبة بإسراع قوات الأمن في اعتقال مخططي الهجمات الإرهابية. "يجب أن لا أنهار"، حسبما قال فاضل لمراسل موطني وهو يمسح دموعه. "ليس لدي شيء آخر أخسره. سأبيع منزلي وأتبرع بماله للقوات العراقية لاستخدامه كمكافأة لمن يلقي القبض على عناصر القاعدة". بدوره، قال رئيس ديوان الوقف السني ببغداد، الشيخ أحمد السامرائي، في حديث لموطني إنه "واجب على الجميع مكافحة القاعدة وسحقها، فلا خير منها ولا نفع. كل ما تفعله هو تدمير العراق والمجتمع". أما اللواء عادل دحام، المتحدث باسم وزارة الداخلية العراقية، فقال في حديث لموطني "ما تقوم به القاعدة ليس سوى خراب يراد منه تحطيم النفس العراقية والتقليل من عزيمة القوات الأمنية في محاربتهم". "لكن ما لا تعيه القاعدة إن ما حصل للأولاد الثلاثة هو أمر يدفعنا لعمل المزيد لمنع هؤلاء الإرهابيين من تدمير حياة أسر عراقية أخرى في المستقبل"، على حد تعبيره. محمد القيسي من بغداد لموقع الشرفة